مدونة مراقى الصالحين: أنواع الهجرات لفضيلة الشيخ فوزى محمد أبوزيد

الثلاثاء، 29 نوفمبر 2011

أنواع الهجرات لفضيلة الشيخ فوزى محمد أبوزيد


فتح رسول الله r الهجرة لأصحابه المباركين، وكان يعلم علم اليقين أنه لابد له من الهجرة، لأنه ما من نبى إلا وهاجر، ولما نزل عليه الوحى أخذته السيدة البارة السيدة خديجة رضى الله عنها إلى ابن عمها ورقة بن نوفل، وكان من أهل الكتاب يتعبد على دين المسيح عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم السلام، وقرأ الكتب السماوية التوراة والإنجيل، فقال له: احك لى يا ابن أخى ما رأيت؟ فحكى له ما صار ...

سيدنا رسول الله لما جاءه الوحى لأول مرة ارتجف وارتعد وارتعش لأن سيدنا جبريل احتضنه ثلاث مرات، وهذا الإحتضان كان للشوق لأن سيدنا جبريل كان مشتاقاً إلى حضرته فلما رآه عبَّر عن شوقه باحتضانه صلوات ربى وسلامه عليه، ثم أخذ rيجرى من غار حراء إلى منزله فى مكة، حتى ذهب للسيدة خديجة وقائلاً زملونى زملونى دثرونى دثرونى - فحكى له هذا.


فقال له ورقة: أبشر يا ابن أخى إن هذا هو الناموس – أى المَلَك – الذى كان يأتى موسى وعيسى، وأنت نبى هذه الأمة، ثم قال له: ليتنى أكون فيها جزعاً – أى شاباً فتياً – عندما يخرجك قومك، قال: أومخرجى هم؟

قال: نعم، ما من نبى أُرسل بما أُرسلت به إلا وأخرجه قومه، إذاً النبى يعرف أنه سيهاجر من لحظة نزول الوحى.

رأى r المكان وخططه ووطن لكل جماعة مكان فيه فى رحلة الإسراء، لأن سيدنا جبريل عندما أركبه البراق جاء إلى مكان المدينة فقال هنا دار هجرتك، من أجل ذلك فإنه r عندما اشتد الأذى من الكافرين على من معه من المؤمنين قال لهم:

{ قَدْ رَأَيْتُ دَارَ هِجْرَتِكُمْ أُرِيتُ سَبْخَةً ذاتَ نَخْلٍ بَيْنَ لابَتَيْنِ هُمَا حَرَّتانِ}[1]

فهاجر أصحابه إلى المدينة، ثم بعد هجرته r استمرت الهجرة من الجزيرة العربية إلى المدينة، إلى أن فتح رسول الله r مكة فى العام الثامن من الهجرة فقال لأصحابه:

{ لا هِجرةَ بعدَ الفتحِ، ولكنْ جِهادٌ ونيَّة }[2]

إذن الهجرة استمرت لمدة ثمانى سنين، ولم يعُد بعدها هجرة مكانية، إذاً ثواب الهجرة وفضل الهجرة وعظيم الأجر على الهجرة ما ذنبنا لنُحرم منه؟ أبقى رسول الله لنا ذلك فقال فى حديث عظيم متفق عليه:

{ المُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِنْ لِسانِهِ وَيَدهِ، والمهاجِرُ مَن هَجرَ ما نَهى اللّهُ عنه }[3]

وقال أيضاً:

{ وَالله لا يُؤْمِن وَالله لا يُؤْمِن وَالله لا يُؤْمِن، قالوا: وَما ذَاكَ يا رَسولَ الله؟ قالَ: جارٌ لا يَأْمَنُ جارُهُ بَوائِقَهُ » قالوا: وما بوائقه؟ قال : «شَرُّه». }[4]

الحديث ليس له شأن بالعبادات، فلم يقل المسلم الذى يُصلى الصلوات الخمس ويصوم ويزكى ... فهذه الأشياء فرائض، لكن متى ينال شرف أن يكون مسلماً حقاً؟

إذا تُرجمت العبادات إلى أخلاق واضحة فى السلوكيات، أثرت عليه العبادات فأصبح وقد سَلِم الناس جميعاً من لسانه ويده، فلا لسانه يؤذى أحد ولا يغتاب أحد ولا يقع فى عرض أحد، ويده لا تؤذى مسلماً بالشكاوى الكيدية أو الأذية أو بأى عمل من أعمال اليدين!! وفيها ما فيها بالنسبة لأخيه المسلم.

والمؤمن هو الذى أمن جاره بوائقه أى شروره وآثامه، فلا يرى جاره منه إلا الخير، لأن الإحسان إلى الجار هى رتبة النبى المختار، ومن وراءه ومن على شاكلته من الأبرار والأطهار.

·         المهاجر إيماناً

{ وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ }

 من المهاجر إلى يوم القيامة؟

الذى هجر المحرمات، والذى هجر المعاصى، والذى هجر الفواحش، والذى هجر الإثم، والذى هجر الوقوع فى الذنب، والذى هجر الأفعال التى تُغضب الله كلها إن كان كبائر أو صغائر، وهجر الأقوال التى تُغضب الخلق كلها إن كانت سباً أو شتماً أو لعناً أو غيبة أو نميمة أو قذف أو سحر أو ما شاكل ذلك.

يسلم الناس منه جميعاً لأنه هجر كل ما يؤدى إلى غضب الله U عليه، أو كل ما يؤدى إلى إغضاب الخلق منه لشر فعله نحوهم أو سوء أصابهم به حتى ولو كان لا يدرى لأن المؤمن لا يفعل ولا يقول إلا ما يُرضى الله U عنه، فهذه هى الهجرة، أن يهجر الإنسان كل ما نهى الله عنه.

ولذلك يجب على كل واحد منا مع بداية العام الهجرى أن يراجع نفسه، ماذا هجرت من المعاصى؟ وماذا تبقى لكى أهجره من المعاصى؟

وإذا أردت أن أكون أعلى فى المقام، فيكون ماذا هجرت من الأخلاق القبيحة حتى أتجمل بالأخلاق الكريمة؟

هجرت سوء الظن مثلاً! هجرت الكذب! هجرت الأثرة والأنانية! هجرت النظر إلى المسلمين بعين تتطلع إلى ما فى أيديهم وإلى ما عندهم من خيرات وتتمنى زوالها، أو الحصول عليها ومنعها منهم ..... فكل هذه الأشياء تحتاج إلى هجرة.

·         هجرة المنهيات

ولذلك قال العلماء العاملون y الهجرة فى هذا المقام لمن أراد أن يهاجر    ثلاث هجرات:

{ هجرة بأمر الله، وهجرة بفضل الله، وهجرة بتوفيق الله }

أما الهجرة بأمر الله فهى أن يُنفذ كل ما أمره به مولاه، ولكى يُنفذ ما أمره به مولاه لابد أن يهجر ما نهى عنه مولاه، فلابد أن يهجر المعاصى حتى يفعل الطاعات، ويهجر الحرام حتى يحصل على الحلال، ويهجر الذنوب والآثام حتى يُطيع الملك العلام، فهذه الهجرة بأمر الله أى فعل ما يأمره به مولاه بعد أن يترك ما نهى عنه الله، وهذه الهجرة الآية الجامعة لها فى كتاب الله هى قةل الله فى [7الحشر]:

}  (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا){

والمصيبة التى وقع فيها كثير من المسلمين فى هذا الزمان أنهم جمعوا بين الإثنين، فكثير منهم يظن أن المطلوب منه لإرضاء ربه القيام بالعبادات، أما المعاملات فيمشى فيها على حسب هواه، وإن كان يعلم علم اليقين أنه يخالف شرع الله، فمثلاً التاجر قد يذهب إلى الحج كل عام، ويذهب إلى العمرة مرات فى العام، لكن فى تجارته لا مانع عنده من أن يغش فى الكيل أو الوزن أو يغش فى الثمن أو يغش فى الصنف .... فيرى أنه ليس عليه شئ فى هذه الأشياء!!

هذه الثنائية هل يوافق عليها الدين؟ لا، فالشرط الأول أن يهجر ما نهى عنه الله، فقد نهى الله عن التطفيف فيجب ألا يُطفف فى كيل ولا ميزان لأن الله قال:

نهى الله U عن الغش على لسان حبيبه ومصطفاه:

{ مَنْ غَشَّنا فَلَيسَ مِنَّا }[5]

نهى عن أى غش إن كان فى الصنف أو السلعة أو غير ذلك، فمشاكلنا فى مجتمعنا سببها التفريق بين المعاملات والعبادات!! مع أن الدين كله واحد، ولابد للإنسان أن يأخذه بجملته، فلا يجوز له أن يعمل بشئ ويترك أشياء ويظن أنه على صواب!! لأنه نَهْى عن كل ما نهى عنه الله، ثم بعد ذلك قيام بكل ما أمر به الله.

كثير من الناس يحرص على الفرائض، ولبيان مدى حرصه على الفرائض فى وقت عمله يترك العمل قبل الظهر بوقت كبير ويذهب للمسجد ليستعد لصلاة الظهر ويظن أنه أدى العبادة كما ينبغى!!

عبادتك فى عملك ومكتبك، وإذا كان عملك يتعلق بخدمة الجماهير فتكون الصلاة بعد نهاية العمل إلا إذا وجدت فرصة وتعود سريعاً، وإذا كان العمل لا يتعلق بالجماهير فاذهب للصلاة أثناء إقامة الصلاة، والذى يُصلى بهم يراعى ذلك فلا يطيل فى الصلاة، لكن المتنطعين يظنون أنهم على صواب، وبعضهم يقوم بعمل درس بعد صلاة الظهر، أين العمل؟

ويسولون ذلك على أنه من الدين!! وهذه هى الطامة الكبرى التى أساءت إلى دين الإسلام فى نظر غير المسلمين لأنهم رأوا أن ما يصنعه المتنطعين – لأن صوتهم عالى – هو هذا الدين!! مع أنهم بعيدين عن نهج الدين بالكلية، الدين:

{ أَعْطِ كُلَّ ذِي حَقَ حَقَّهُ }[6]

حق العمل لا أفرط فيه، وحق الله محفوظ.

فنحن نحتاج فى هذه الأيام الكريمة أن نبين لأنفسنا ونمشى على هذا المنهاج، وإن كان فى نظر كثير من المتنطعين شاذ، لكن هذا هو المنهج الحق الذى ارتضاه سيد الخلق r، وهو أن نهجر المعاصى بالكلية ثم نبدأ العبادات لرب البرية U، ولو أن الإنسان انتهى عن المعاصى ثم لم يقم إلا بالفرائض فقط أفلح كما قال r ودخل الجنة لأنه ليس عليه شئ.

فالأساس أن يحفظ الإنسان نفسه من الذنوب والآثام ثم يطيع الملك الحق U رغبة فى الهجرة إلى الطاعات والقربات المبثوثة فى كتاب الله والتى بينها بفعله وقوله وحاله سيدنا رسول الله r.

يحتاج المسلمون جميعهم فى هذا الزمان إلى هذه الهجرة، فمثلاً نجد الفلاح يذهب ليصلى الفجر فى وقته، وعندما يؤذن الظهر يترك عمله ويسارع للصلاة، ثم بعد ذلك يريد أن يكسب سريعاً فيضع فى زراعته الهرمونات والكيماويات والمبيدات المحظورات ليستعجل الأرزاق، ويظن أن هذا شئ والعبادة شئ! لابد من هجر هذا للغش أولاً!!!!

 ثم بعد ذلك لو لم تصلى إلا الفرائض فى وقتها سيكفيك هذا! وقس على ذلك بقية الأمور!!

فتلك مصيبة حلت بمجتمعنا لأننا تأثرنا فيه بالمجتمعات الأجنبية، وأخذنا نظرية المنفعة وإن كنا لا نشعر بها وجعلناها هى أساس حياتنا، إذا كانت المنفعة فى ميزان المعاملات لا نوزنها بميزان الحلال والحرام، قال r:

{ لا تَكُونُوا إِمَّعةً تَقُولُونَ إِن أَحْسَنَ النَّاسُ أَحْسَنَّا، وإِنْ ظَلَمُوا ظَلَمْنَا، وَلَكِنْ وَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ، إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَنْ تُحْسِنُوا، وإِنْ أسَاءُوا فَلاَ تَظْلمُوا }[7]

الهجرة الأولى التى هجرها كل أصحاب رسول الله سواء فى المدينة أو خارج المدينة هى هجرة المعاصى بالكلية، وهجروا المحرمات الواردة كلها جملة واحدة، والمعاصى التى لا يعتبرها المسلمون الآن معاصى ويتسلون بآدائها فهذه مصيبة المصائب، مَن فى المسلمين الآن يعُد الكذب معصية؟

الأغلبية يعتبرونه فهلوة وشطارة، ومَن مِن المسلمين الآن يعتبر أن الغيبة والنميمة وقيعة ينبغى عليه الإقلاع عنها؟ قلَّ وندر، تسالى الناس فى هذا الزمان فى القيل والقال، فلابد من هجرة كل ذلك، وننفذ ما أمرنا به الله U، وحتى ندخل فى قوله r: { وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ }.

·         هجرة الدنيا والدنايا

إذا استطاع الإنسان أن يهاجر هذه الهجرة فيرتقى منها إلى هجرة أعظم، فيرتقى إلى هجرة بفضل الله من الدنيا إلى الآخرة، فيرى الأعمال التى وصفها الله فى القرآن بأنها هى الدنيا ولا يأخذ منها إلا الضرورات متأسياً بحبيب الله ومصطفاه، وهمه يكون كله فى الأعمال التى توصله إلى رضوان الله فى الدار الآخرة، ما الدنيا يارب؟ قال:

} لَعِبٌ { لو أننى فى لعب إذاً أنا فى الدنيا، كمن يجلسون على قهوة يلعبون الطاولة أو الدومينو للتسالى – ليس على مال فهو قمار - فهؤلاء فى الدنيا، والحكم فى ذلك حكم به النبى r فقال:

{ اللاَّعِبُ بالنَّرْدِ (قماراً)، كآكِلِ لحمِ الخِنْزِيرِ ، واللاَّعِبُ بِهَا عن غيرِ قمارٍ كالمُدَّهِنِ بِوَدَكِ الخِنْزِيرِ }[8]

الخنزير نجس، إذاً لماذا يضع الإنسان يده فى هذه النجاسات!!!  فبدلاً من أن أمسك الزهر أمسك بالمسبحة ... فأستغفر الله أو أذكر الله .... أو أصلى على رسول الله .... فأدخل فى قول الله: [46الكهف]

} وَلَهْوٌ { وكذلك اللهو، كالذهاب إلى السينمات والمسارح!

الترويح مطلوب وحبب النبى r فيه وقال:

{ ثَلاَثٌ يَجْلِينَ الْبَصَرَ: النَّظَرُ إِلَى الْخُضْرَةِ ، وَإِلَى الْمَاءِ الْجَارِي، وَإِلَى الْوَجْهِ الْحَسَنِ }[9]

فإذا تنزه الإنسان فى حديقة يكون دائما فى خاطره:

ينظر ليعتبر:

فيكون كل نظره للعبرة، فأى شئ ينظر إليه يجد فيه عبرة ويجد فيه ذكرى ويجد فيه عظة بليغة، لكن لا يُضيع وقته فى مثل هذا اللهو، الكل مطالب أن يمارس رياضة، لكن مشاهدة القنوات الرياضية ما الفائدة منها؟!!

الذين يلعبون يكسبون ولو تأخر عنهم المكسب لما لعبوا لأنها أصبحت حرفة، لكن ما مكسبى أنا؟ يجب على المؤمن دائماً أن يستغل كل نَفَس فيما يحقق له ربحاً إما فى الدنيا أو الآخرة، فبدلاً من الجلوس لمدة ساعتين لمشاهدة مباراة أنظر فى كتاب الله، أو أقرأ باب من العلم النافع، أو غير ذلك من هذا القبيل، لكن لا بأس من ممارسة الرياضة، والأصعب من ذلك هو التعصب للأندية فتجد الحوارات والنقاشات التى لا فائدة منها، إلا أنه قطع الوقت فيما لا يفيد، وهذا اسمه اللغو، فاللغو هو الكلام الذى لا يفيد، وما صفة المؤمنون يارب؟ قال:

لكن لو غيبة أونميمة فإن لها محاضر فورية ولا يتم حفظ أى محضر إلا بمصالحة صاحب المحضر نفسه ليتنازل عن القضية!! فالمؤمن ليس عنده وقت للغو ولا للهو ولا للسهو، وإنما دائماً وأبداً ذاكرٌ لمولاه، وخاصة أن الله قال لنا:

[41الأحزاب]

وكثيراً ليس لها حدود!!.

} وَزِينَةٌ { والزينة هى التى تشغل عن الله، لكن كونك مؤمن فأنت مطالب أن تتجمل:

{ إِنَّ الله يُحِبُّ أَنْ يرَى أَثَرُ نِعْمَتِهِ عَلَى عَبْدِهِ }[10]

لكن لا يجب على الإنسان أن يهتم بمظهره زيادة عن اللزوم وينشغل به حتى عن عمله:

{ إِنَّ الله جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ }[11]

ولكن بشرط ألا يشغل البال!!!، كيف؟

قال رجل لأحد الصالحين: أريد أن أُحضر لك ثوباً، قال له: لا مانع بشرط أن تأتينى بثوب يخدمنى لا ثوباً أخدمه!! فالمؤمن نظيف يحب النظافة وجميل يحب الجمال ولكن بشرط ألا تشغل الإنسان هذه الأشياء عن طاعة الله وذكر الله والإقبال على الله، وإلا ستكون من الحياة الدنيا، سيدنا رسول الله r كان ذات مرة على المنبر، وكان قد لبس خاتماً جديداً، وإذا به يخلع الخاتم ويرمى به، فقالوا له: ما هذا يا رسول الله؟ قال ما معناه:

{ هذا شغلنى عنكم مرة أنظر إلى الخاتم ومرة أنظر إليكم فخلعته }

وقال فى ذلك رجل من الصالحين:

{ كل ما شغل الإنسان عن الله من مال أو ولد فهو مشئوم }[12]

أقوم للولد بواجبى نحوه، لكن لا يشغلنى عن طاعة الله وعن عبادة الله وعن رضا الله جل فى علاه.

} وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ { بعض المجالس لا يكون الحديث فيها إلا عن الأنساب والعائلات، هل المؤمن عنده وقت لهذا الكلام؟

نحن لو تكلمنا نتكلم عن ديننا وعن الله وعن نبينا وعن صحابة نبينا .... فهذه أحاديثنا، قال r:

{ إنَّ اللَّهَ أَوْحَى إلَيَّ أَنْ تَوَاضَعُوا حَتَّى لاَ يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ }[13]

لكن بِمَ تفتخر؟ افتخر بأخلاقك وعباداتك وأعمالك الصالحة ... لكن أبى وأمى رحمهم الله وأفضوا إلى رحمة الله U، فما دورك أنت؟!! هذا هو الأساس، فنهى الله U عن التفاخر، حيث كانت هناك مجالس للتفاخر فى مِنَى فقال لهم الله: [200البقرة]

كذلك كلام الموظفين فى المكاتب كله فى هذا القبيل، إما أن يفتخر الإنسان بمن مات أو بأولاده الموجودين، ابنك لو لم يهده الهادى هل تستطيع هدايته؟! لو لم يوفقه الموفق U هل تستطيع إجباره على عمل؟!

فعندما تنظر إلى ذلك انظر إلى توفيق الله أولاً!!

كذلك الفلاحين يتفاخرون بزراعاتهم، فيقول أحدهم زراعتى أفضل من فلان لأنى عملت لها كذا وكذا، هل نسيت المحسن الذى أحسن إليك فى هذه الزراعة؟! أنت تضع البذرة فقط، والبذرة هو الذى أتاك بها، وجاءك بالماء والهواء والغذاء، ويرعاها ويتولاها، لو لم يحفظ الحفيظ هذه الزراعة فإنها ستنتهى!!

إذن توفيق الله هو الذى مع الإنسان فى كل شأن، وكذلك الحال بالنسبة للأولاد:[56القصص]

لو الهداية بيد إنسان لكان ملكها الأنبياء، لكن هل استطاع النبى أن يهدى ابنه؟! فقل أولاً فضل الله علىَّ كذا وكذا، فتذكر فضل الله عليك حتى لا تُشغل بالتفاخر بما ليس لك!!!

وإنما لله جل فى علاه، كذلك الذى يفتخر بنفسه إن كان بقوته أو بعينيه أو بشكله!

والسيدات لهن باع واسع فى هذا المجال، فمثلاً تأتى بطفل لها وتقول لمن حولها مَن يستطيع أن ينجب مثل هذا الطفل؟!!

هذا رزق ساقه الله U، من صنع العينين؟! ومن صور الوجه؟! ومن لون الشعر؟! ومن له دخل فى أى أمر ظاهر أو باطن بالنسبة لأى ولد أو بنت؟!! الفضل كله لله U، فلا ينشغل الإنسان بهذه الأمور، لأن الشغل بها من الدنيا.

} وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ { إذاً لا نسعى لذلك؟ لا، بل يجب أن نسعى لنتحقق بقوله r:

{ نِعْمَ المَالُ الصَّالِحُ مَعَ الرَّجُلِ الصَّالِحِ }[14]

وذلك بأن أسعى فى طريق حلال أحله شرع الله، ووسيلة التحصيل التى أستخدمها يوافق عليها شرع الله، وأُخرج منه حق الله U إذا كان عليه زكاة، ولا أنشغل به عن حقوق الله وطاعة الله، فلا يجوز أن أجمع الصلوات مع بعضها بحجة عدم وجود وقت، هل هذا عذر يقبله الله من الإنسان يوم لقياه؟!!

لا، لو لم تؤدى الفرائض فى وقتها وجمعت الدنيا بأكملها فى يديك، ماذا ستصنع بها عندما ترحل من هنا؟! ستُسأل عنها وتتركها لغيرك ليتمتع بها، إذن يجب على المسلم أن يُحصل المال ليغنى نفسه عن سؤال اللئيم وعن الحاجة إلى الخلق، لأن الحاجة فيها مذلة وهوان، والمسلم دائماً عزيز:

} ¬[8المنافقون]

فلابد للمسلم أن يعز نفسه بأن يكون معه ما يغنيه عن الخلق، مع أداء الفرائض والطاعات فى وقتها، فى هذه الحالة يصبح المال الذى جمعه عبادة ويدخل فى قول رسول الله r:

{ مَنْ بَـاتَ كالاًّ مِنْ عَمَلِهِ بَـاتَ مَغْفُوراً لَهُ }[15]

وكذلك الأولاد، لو تركت الصلاة فى المسجد لأبقى معهم لأنهم فى الثانوية أو غير ذلك!! هل بقاءك معهم هو الذى سينجحهم؟!!

من الجائز أن يكون دعاءك لهم هو سبب التوفيق لهم، لأن الإمتحانات توفيق، فكما أن أولادك يريدون منك أن تتابعهم، كذلك يريدون منك أن تكون على صلة بالله Uحتى تدعو لهم، لأن الدعاء أزكى لهم وأنفع. وإذا أردتهم أن يكونوا صالحين حتى عندما تنتقل إلى الله يبقى لك ولد صالح يدعو لك.

كذلك نجد الآن انتشار المدارس والكليات الأجنبية، والناس تُدخل أولادها فيها، إذا كانوا سيذهبون إلى هذه المدارس أو الكليات وسيحافظون على الدين فلا بأس.

لكن إذا لم يحافظوا على الدين وفهموا أنه لا مانع من صداقة المسلم للمسيحية والمسلمة للمسيحى، وتعلموا العلمانية البحتة لأنه ليس هناك ناحية دينية من بعيد أو قريب فى هذه الأماكن- إلا شكايات لا طائل منها!- ، فهنا أكون قد قصرت فى حقهم، حتى لو تخرج واشتغل فى أرقى المناصب!! لأنى ضيعت عليه الدين، وأنا المسئول الأول لقول رب العالمين U:

}( ß[132طه]

فالأساس كله أن أوفيهم وأوفى لهم الناحية الدينية، ولا يضيعونى لإرضاء رغباتهم أن أكسب من الحرام، كأخذ الرشاوى أو الحصول على أشياء ينكرها شرع الله لأكفى لهم حاجاتهم، المؤمن يمشى على قدر وسعة الحلال الذى أحله له ذو الجلال والإكرام، قال r:

{ إذا كان يوم القيامة يشكو أهل الرجل الرجل إلى الله، يقولون: يا ربنا خذ لنا بحقنا من هذا، فيقول رب العزة: وما ذاك؟ فيقولون: كان يطعمنا من الحرام ولم يعلمنا أحكام ديننا }[16]

إذن أنت مطالب أمام أولادك بشيئين، أولهما الحرص على أن تكون كل طلباتهم من الحلال، وثانيهما أن أربيهم على الخلق والدين، حتى أجد ولد صالح أو بنت صالحة تدعوا لى عندما أفارق الدنيا وأكون بين يدى رب العالمين، إذا هاجر الإنسان من هذه الأمور إلى أعمال الآخرة وبضاعة الآخرة:

} ( [197البقرة]

فهذه هجرة عالية.

·         الهجرة إلى الله

وهناك هجرة أعلى منها وهى أن يهاجر من الكونين إلى مكون الأكوان U، وهى الهجرة بتوفيق الله من الدنيا والآخرة إلى وجه الله، فهى هجرة قلبية، أى بالنية، أى أن الإنسان لا يقصد عند نية أى عمل دنيا كالشهرة والسمعة والرياء، ولا يقصد به ثواب ولا جنات فى الآخرة، ولكن يقصد به وجه الله، وهذه المعاملة الأعلى التى ذكر الله فيها أهل الصُفة وقال فيهم لحبيبه ومصطفاه عليه أفضل الصلاة وأتم السلام: [28الكهف]

عملهم كله طلباً لوجه الله، وهذه المعاملة الأجمل والأكمل والأعلى، وهى هجرة الأفراد الذين فروا إلى الله:{ [50الذاريات]

إذن يجب على الإنسان فى بداية كل عام هجرى أن يراجع هجرته لينظر ماذا فعل فيها، ويرجع مرة أخرى ليهاجر من جديد، فلو هجرت فى كل عام خُلُقاً سيئاً واحداً ولم تعد إليه أبداً ياهناك، فلو هجرت فى عام الكذب مثلاً ولم أعد إليه مرة أخرى، ثم هجرت خلقا آخر  وهكذا فسيأتى يوم أكون تخلقت فيه بأخلاق الحبيب: (فحافظ على منهج المختار فى العقد تنسق) ويدخل فى:

}  [29الفتح]

لكن من يترك نفسه هملاً لا يراجع أخلاقه ولا أعماله ولا نياته فهذا سيندم وعند نفَسه الأخير سيقول:

} 4’ { [56الزمر]

فلابد للإنسان أن يراجع سلوكياته وأخلاقه ونواياه وطواياه وأعماله وأحواله حتى يزنها بميزان رسول الله r.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم



[1] رواه البخارى في الصحيح والإمام أحمد عن عائشة  رضي الله عنها.

[2] صحيح البخارى عن ابن عباس رضى الله عنهم.


[3] صحيح البخارى عن عبد الله بن عمرو رضى الله عنهم.

[4] مسند الإمام أحمد عن أبى هريرة.


[5] صحيح ابن حبان عن عبد الله بن عمر رضى الله عنهم.


[6] رواه ابن حبان والبيهقي عن أبي جحيفة عن أبيه.

[7] سنن الترمذى عن حذيفة رضى الله عنهما.


[8] سنن البيهقي الكبرى عن عبدالله بن عمر.


[9]  ورد في جامع المسانيد والأحاديث (ك) في تاريخهِ عن عليّ وعن ابنِ عمروٍ (أَبو نعيم ) في الطُّب عن عائشةَ (الْخرائطي في اعتِلاَلِ الْقلوب ) عن أَبي سعيدٍ رضيَ اللَّهُ عنهُمْ


[10] مسند الإمام أحمد عن أبى هريرة.

[11] صحيح مسلم عن عبد الله بن مسعود رضى الله عنهما ،ونص الحديث: «لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ» قَالَ رَجُلٌ: إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنا، وَنَعْلُهُ حَسَنَةً. قَالَ: «إِنَّ الله جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ. الْكِبْرُ: بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ»


[12] جامع العلوم والحكم.


[13] رواه مسلم في الصحيح عن أبي عمار.


[14] صحيح ابن حبان عن عمرو بن العاص t .


[15]  ابن عساكر ، عن المقدام بن معديكرب رضيَ اللَّهُ عنهُ (ز).

[16] تفسير روح البيا
الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ فوزي محمد أبوزيد


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق