أسباب عناية الإسلام بالتربية الجنسية
لقد كان اهتمام الإسلام بالتربية الجنسية، لأن العاطفة الجنسية مظهر إنساني يؤثر في سلوك الإنسان، فكان لا بد من أن يتناوله التهذيب مع عدم البعد عن الحقيقة، ولذلك فالسلبية المطلقة والرد على تساؤلات النشء عن هذه العاطفة بقولنا: (عيب .. لا يصح)، طريقة غير سليمة في إفهامهم هذه النواحي الجنسية الطبيعية.
وفي ذلك يقول الأستاذ أحمد عبد اللطيف بدر ]في كتابه (العاطفة الجنسية في ضوء الدين والعلم) ص 40[:
(ونحن نترك أبناءنا يتيهون فيما لا يشعرون به في دور البلوغ من اختلاف جسمي وعقلي ونفسي، ونتركهم للطبيعة، وانحرافهم راجع إلى إهمالهم وعدم اللباقة في وقوفهم على حقائق واضحة، فحين يجد الناشئ نفسه قد أفرز في حلمه وهولم يألف ذلك يخشى أن يصارح أباه في أمره، وكذلك البنت، ويتلقى كلاهما من المحيط الخارجي في صورة مشوهة ما يدور حول الناحية الجنسية وبذلك يكون الانحراف!! إن واجب كل أم أن تُعَرِّفَ ابنتها حقيقة العاطفة الجنسية من أنها شئ طبيعي يراد به حفظ النوع، ولها في الحيوان الأليف في البيت ما يذلل لها الصعوبة) انتهى.
ويقول أيضَا ]في ص 23 من نفس الكتاب[:
)وتربية الغريزة في دور البلوغ تحتاج إلى حسن القيادة وجمال التصرف، فإن محاصرة البالغين والبالغات، والأخذ بالعنف في تقبيح نداء الغريزة يولِّد شعورًا خفيًّا بأن المباشرة الجنسية شيئًا غريبًا مستكرهًا بعيدًا عن الإنسانية، وقد يضل كثير من الأبناء والبنات لعدم التوجيه السديد، وفي أوائل البلوغ تميل الأنثى إلى النوم كثيرًا، ويغرق الذكر في أحلامه، ويغيب عما حوله، ويريد التنفيس عما يلاقي من مظهر غريب عنه لم يألفه، وبخاصة حين يفرز في نومه المادة المنوية، ويخيل إليه أنه فريد في ظاهرته، فالواجب على الأم أن تعرِّف ابنتها كل ما يتصل بالحياة الجنسية في صراحة مع التحفظ وعدم التنزل والابتذال كما يفعل الكاتبون الذين يكشفون ليثيروا لا ليفيدوا(.
هذا إلى أن الجهل بالتربية الجنسية يؤدي إلى ارتكاب مخالفات شرعية يقع فيها المرء وهو يظن أنه على صواب مثل:
· قد يمس الرجل ذكره بباطن كفه، أو المرأة باطن فرجا فيبطل الوضوء من كل منهما وهما لا يشعران.
· كم من فتاة اغتسلت بعد الطهر من المحيض بدون رفع موانع الحيض، وبدون احترام لشرائط الغسل وفرائضه، إنما أفرغت الماء على نفسها مصحوبًا بعقاقير وعطر وشبهه، لأنها كانت تعتقد أن النية والشروط والفرائض تخص المتزوجات.
· وكم من ملامسات سطحية وقعت بعد مراكنة الخطيبين لبعضهما وقبل العقد الشرعي، وهما يحسبان أن الخطبة (بكسر الخاء) عقد. وقد أدت تلك الملامسات إلى حمل غير شرعي، والطب يثبت الحمل بمثل هذه الملامسات.
ولهذا يقول الدكتور عبد الرحمن طالب الجزائري ]في كتابه (التربية الجنسية في الإسلام) ص 213[:
)لقد دلت الدراسات عن المراهقين من الفتيان دلالة واضحة على أن فترة المراهقة هي فترة رغبات جنسية قوية. وقد ثبت أن ما يزيد على 95% من المراهقين الذكور في المجتمع الأمريكي يكونون فعالين جنسيًا حين بلوغهم الخامسة عشر من العمر. وفي هذا دليل على الحاجة الكبرى للتربية الجنسية. ذلك بأن المراهق بحاجة لمساعدته فيما خص مشكلاته الجنسية، وفي إمكان المدرسة والبيت أن يساعدا المراهق كثيرًا في هذا الخصوص( انتهى.
تربية الأطفال جنسياً
ويراعى فيها أن تواكب مراحل نموهم وتتلخص فيما يلي:
أولاً - ستر العورة:
فالمطلوب من الآباء أن يربوا أولادهم منذ الصغر على تغطية عوراتهم حتى ينشأوا على الحياء والحشمية. وعورة الصغار اختلف فيها رجال المذاهب:
فالشافعية شدَّدوا وجعلوا عورة الصغير ولو غير مميز كالرجل، ما بين السرة والركبة.
والمالكية خفَّفوا فجعلوا ابن ثماني سنوات لا عورة له، فجوَّزوا النظر إلى جميع بدنه، وتغسيله ميتًا، وكذا بنت ثلاث سنوات وثمانية أشهر لا عورة لها، ولكن بنت ثلاث سنوات لها عورة بالنسبة للمس، فليس للرجل أن يغسلها، أما بنت ست سنوات فهي كالمرأة.
أما الحنابلة والأحناف فإنهم توسَّطوا في قضية عورة الأطفال بالنسبة للنظر والصلاة.
ثانيًا - التفرقة بينهم في المضاجع:
فالشرع يطلب أن يفرق الأبوان بين أبنائهم وبناتهم في النوم إذا ما بلغوا عشر سنين، وذلك فيما رواه الإمامان الحاكم وأبو داود بسنديهما عن النبي r أنه قال: (مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر، وفرقوا بينهم في المضاجع).
قال السيد عبد الله علوان معلقًا على هذا الحديث: (فيؤخذ من هذا النص أن الآباء والأمهات مأمورون شرعاً بأن يفرقوا بين أبنائهم في المضجع إذا بلغوا سن العاشرة مخافة إن اختلطوا في فراش - وهم في سن المراهقة أو ما يقاربها - أن يروا من عورات بعضهم البعض في حال النوم أو في اليقظة ما يثيرهم جنسيًا أو يفسدهم خلقيًا) انتهى.
وفي صحيح البخاري:
(أن النبي r أردف الفضل بن العباس t ما يوم النحر خلفه، وكان الفضل قد ناهز البلوغ، فطفق الفضل ينظر إلى امرأة وضيئة من خثعم، كانت تسأل النبي r عن أمور دينها، فأخذ النبي r بذقن الفضل، فحوَّل وَجْهَهُ عن النظر إليها). وفي رواية الإمام الترمذي: (أن العباس قال للرسول r : لويت عنق ابن عمك؟ فقال r : رأيت شاباً وشابة فلم آمن عليهما الفتنة).
وهذا الحديث وشبهه كثير في السنة، ويؤخذ منه اهتمام الرسول r بأخلاق المراهقين والشباب حتى يربوا وينشئوا تنشئة حسنة إسلامية.
ثالثًا - تعليم الأولاد أحكام المراهقة:
يدعو الإسلام المربين إلى مصارحة من هم تحت تربيتهم ووصايتهم، بكل ما له علاقة بالأحكام الشرعية المتصلة بالجنس، وعلاقات البلوغ مثل الحيضٌ، والإستحاضة والحملٌ، وخروجُ منيٍّ والمذى وإنبات شعر العانة، وبالطبع يبدأون بعلامات البلوغ وهي المشار إليها في المرشد المعين بقوله:
وكل تكليف بشرط العقل مع البلوغ بدم أو حمــل
أو بمنيّ أو بإنبات شـعر أو بثمان عشرة حولاً ظهر
رابعًا - تجنيب الأبناء الإثارات الجنسية:
وهذا باب فى غاية الأهمية فقد فتحت أبواب الإثارة الجنسية على مصراعيها فى هذا العصر ، ونذكر منها على سبيل الشهرة لا الحصر فمنها:
1. الأنترنت وموقع الإباحيات والخلاعة والفجور التى لاتعد ولا تحصى، ووسائل العرض المختلفة من أجهزة الكمبيوتر والهواتف النقالة وغيرها من الأجهزة الصغيرة الحجم السهلة التدوال والمتطورة بما يشمل الوسائل الحديثة للتواصل الإجتماعى من التشات والمحدثة المصورة على الإنترنت حيث قلت التكلفة وانعدمت الرقابة وانفتحت السماوات.
2. أفلام الخلاعة التي تعرض في السينما أو على شاشة التليفزيون قادمة من الفضائيات وقنوات الأغانى والكليبات والتسويق وقنوات الفجور العلنى وتلك الأفلام التي تتكلم عن الجنس لا لغرض تربوي شرعي، وإنما للإثارة.
3. الصور العارية المصورة والمعروضة في أندية السياحة والأندية عموما ودور بيع الصحف وحتى على الأوراق البريدية وطوابعها.
4. الجرائد والمجلات التي تعرض الجمال الجسمي والألبسة الداخلية، والتى تظهر من خلالها المفاتن الجسدية، ناهيك عن المجلات الإباحية الجنسية المعروفة والمنتشرة وأيضاً المجلات الإجتماعية وأخبار الفن وغيرها.
5. الكتيبات التي ترسم الأعضاء التناسلية وتصورها، ووتشرح جميع الأفعال المخلة بالحياء والتى تشمل بعضها أيضا الشذوذ، والتي توجد بالمكتبات وحتى على الأرصفة وبالأكشاك، والتي تعرض أحيانًا جهرًا بلا خجل ولا حياء ، وطورًا في الظلام وفي الخفاء.
6. قصص وسلاسل المطبوعات وروايات الخلاعة التي تصور العشق والمجون، وتدعو للإثارة والرذيلة وترك القيم والآداب الإسلامية.
7. الاختلاط مع الأشرار المائعين المنحرفين من الجنسين الذين انتشروا فى كل حدب وصوب، وقد قال في ذلك الشاعر:
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه فكلُّ قَرِينٍ بالمقارن يقتــدي
8. الإحتكاك بالنساء لا سيما في المواصلات العامة، أو الحضور معهن في الحفلات المختلطة.
خامساً :تعليم أدب الدخول على النساء والإستئذان على الوالدين
والله تعالى قد أباح للطفل أن يحضر مع النساء فيما إذا لم يكن يفرق بين المرأة الجميلة والدميمة لقول الله تعالى: } أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء { [31- النور].
يقول ابن كثير في تفسيره لهذه الآية: (يعني لصغرهم لا يفهمون أحوال النساء وعوراتهن من كلامهن الرخيم، وتعطفهن في المشية، وحركاتهن وسكناتهن، فإذا كان الطفل صغيرًا لا يفهم ذلك فلا بأس بدخوله على النساء، أما إذا كان مراهقًا أو قريبًا من المراهقين بحيث يعرف ذلك ويدريه، ويفرق بين الشوهاء والحسناء فلا يُمََكَّنْ من الدخول على النساء). وقد ثبت في الصحيحين عن سيدنا رسول الله r أنه قال: ( إياكم والدخول على النساء، قيل يا رسول الله، أَفَرَأَيْتَ الحَمْوَ - أي قريب الزوج؟ قال: الحَمْوُ المَوْتُ ).
وهؤلاء الأطفال - وإن سمح لهم الشرع بالدخول على أهليهم، والدخول عليهم بدون استئذان - فإنه حذرهم وألزمهم الإستئذان حتى على الآباء في أوقات ثلاثة، فقال جلَّ شأنه: } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِن قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ الظَّهِيرَةِ وَمِن بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاء ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُم { [58- النور]. ففي هذه الأوقات الثلاثة لابد أن يستأذن الخدم والأطفال على آبائهم وأهليهم حتى لا تقع أعينهم على عورات مكشوفة.
والأوقات التي يجب الاستئذان فيها هي: حين يكون الناس عادة في لباس النوم، ووقت القيلولة حين يتخفف المرتاحون من الثياب الثقيلة الضيقة، وما بعد العشاء حين يتهيأ الرجال والنساء للنوم والاستراحة.
والاستئذان قبل الدخول هنا يتناول الذكور والإناث معاً، ويجب الاستئذان أيضًا على إناث الأطفال في العورات الثلاث، أما البالغات منهن ففي غير هذه الأوقات أيضًا، وهذا أمر بديهي.
علاج الإسلام للزنى
الزنا عادة سيئة قديمة تحدث بين الرجال والنساء، فتؤدي إلى اختلاط الأنساب، وهتك الأعراض، وإذهاب العفة والفضيلة. وحديثنا عن الزنا يشمل اللواط والسحاق أيضًا لأنهما من هذا الباب، بل إن التحريض على الفحشاء بجميع أنواعها من الزنا، لأن الدال على الشئ كفاعله.
والله تعالى لما حرَّم الزنا حرَّم كذلك مقدماته فقال: } وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً { ] 32- الإسراء].
وأما اللواط وهو إتيان الذكر للذكر فقد ذكره الله تعالى في قصة لوط عليه السلام، فقال فى [80، 81- الأعراف]:
} وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن الْعَالَمِينَ. إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاء بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ {
وأما السحاق أو المساحقة - التي تسمى بلغة العصر (الملامسة السطحية وتحدث بين النساء ) ، فهي محرمة باتفاق العلماء لقوله r:
(وَلاَ تُفْضِي الْمَرْأَةُ إِلَى الْمَرْأَةِ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ)
أسباب إنتشار الآفات الجنسية فى المجتمع
وأسباب هذه الآفات أو الأمراض كما وضحتها الشريعة كما يلي:
1. الاختلاء بالمرأة الأجنبية: أي مجالستها في مكان مغلق بدون محرم، وقد إنتشر التهاون فى هذا الأمر وكم نتج عنه من المصائب بين الخاطبين وزملاء الجامعة والجيران والأقارب بلا وازع ولا ضابط!! ولقد نهى رسول الله r عن ذلك نهيًا قاطعًا في عدة أحاديث منها قوله:
(لا يخلون أحدكم بامرأة إلا مع ذي محرم).
2. النظر المحرم إلى محاسن المرأة بأى وسيلة كانت: وقد منع الإسلام عن النظر إلى محاسن المرأة ومفاتنها وزينتها في عدة آيات قرآنية، منها قوله تعالى: } قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ { [30، 31- النور]. وقد أشار إليها الرسول r في قوله: (ما من مسلم ينظر إلى محاسن امرأة، ثم يغض بصره إلا أحدث الله له عبادة يجد حلاوتها في قلبه).
والنظر محرَّم على الرجال والنساء على حد سواء، وعمى أحد الجنسين لا يسمح للطرف الآخر برفع بصره للنظر فيه، وفي حديث أم سلمة رضى الله عنها ما يدل على ذلك حيث قالت:
(كنت عند رسول الله r ، وعنده ميمونه، فأقبل ابن أم مكتوم، وذلك بعد أن أمرنا بالحجاب، فقال النبي r : احتجبا منه، فقلنا: يا رسول الله، أليس هو أعمى لا يبصرنا ولا يعرفنا؟ فقال النبي r : أفعمياوان أنتما؟ ألستما تبصرانه؟).
3. الاستماع إلى صوت المرأة المرخم: لأن صوت المرأة في حد ذاته ليس بعورة، بدليل أنها يجوز التعليم والتعلم، والبيع والشراء، وأداء الشهادة، والإعلان عن الجرح والتعديل. وقد باشرت الصحابيات رضوان الله عليهن مثل هذه الأعمال في العصر النبوي وعصر الخلفاء الراشدين، وإنما الممنوع الصوت المرخَّم الذي يحدث شهوة وطمعًا عند الرجال.
وفي القرآن الكريم تربية واضحة للنساء عند مخاطبتهن الرجال حيث قال جل شأنه: } فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفًا { [32- الأحزاب]. فالخضوع بالقول: ترقيقه وترخيمه. والقول المعروف: الكلام الحسن العفيف الذي لا لين فيه ولا تكسير.
وقد بين القرآن تربية أخرى للنساء اللائي يحدثن صوتًا بسبب احتكاك حليهن: الخلاخل، أو القلائد والأساور وشبهها قرب الرجل، لأن السماع كالنظر، فالكل يحدث إثارة جنسية، قال تعالى:
} وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ { [ النور: 31]
قال ابن عباس t ما في هذه الآية:
(كانت المرأة تمرُّ بالناس فتضرب برجلها لتُسمع صوت خلخالها، فنهى الله عن ذلك لأنه من عمل الشيطان).
4. شم أنفاس المرأة واستنشاق عطرها الذي تعطرت به: فأما شم أنفاسها فيحدث عند الاقتراب منها، والاحتكاك بها، وهذه الأنفاس مثيرة للجنس ولو لم تكن مشوبة بعطر، ولا يمكن التحرز من هذه الأنفاس إلا بالابتعاد، ولذلك أورد ابن الحاج في المدخل حديث:
(باعدوا أنفاس النساء وأنفاس الرجال).
وأما استنشاق عطر الأجنبية فقد ورد فيه قوله r فى صحيح بن حبان عن أبى موسى الأشعرى t:
{ أَيُّمَا امْرَأةٍ استَعْطَرتْ، فَمَرَّتْ على قَوْمٍ لِيَجِدُوا رِيحَها فهي زَانِيَةٌ، وكُلُّ عَيْنٍ زَانِيَةٌ }
5. لمس أعضائها بالمباشرة الجسدية أو التقبيل أو المصافحة، وقد ورد في ذلك قوله r : (لأن يطعن في رأس أحدكم بمخيط من حديد خير له من أن يمس امرأة لا تحل له).
6. نقص التربية متمثلاُ فى قلة المروءة من طرف الزناة: لأن المزني بها هي ابنة أخ مسلم أو زوجته، أو أخته، أو أمه، أو إحدى عماته أو خالاته.ولا يرضى الزاني مهما كان متسيِّباً أن تهتك حرماته بالزنى، ولا يقبل أن يُمس في شرفه، وشرف حرمه وأسرته. فلو استعمل الزاني عقله مليًّا لما ارتكب فاحشة الزنا!!! وفي الحديث عن أبي أمامة أن فتىً شابًا أتى النبي r فقال:
{ يا رسول الله إئذن لي في الزنا، فأقبل القوم عليه فزجروه، وقالوا: مه مه، فقال r : أدنه فدنا منه قريبًا، فقال: أتحبه لأمك؟ قال: لا، وجعلني الله فداك، قال: وكذلك الناس لا يحبونه لأمهاتهم، قال: أفتحبه لابنتك؟ قال: لا والله يا رسول الله، جعلني الله فداءك. قال: ولا الناس يحبونه لبناتهم، قال أفتحبه لأختك؟ قال: لا والله، جعلني الله فداءك. قال: ولا الناس يحبونه لأخواتهم. قال: أفتحبه لعمتك؟ قال: لا والله، جعلني الله فداءك قال: ولا الناس يحبونه لعماتهم، قال: أفتحبه لخالتك؟ قال: لا والله، جعلني الله فداءك، قال: ولا الناس يحبونه لخالاتهم. قال: فوضع يده عليه وقال: اللهم اغْفِرْ ذنبه، وطهِّرْ قلبه، وحصِّنْ فرجه ، فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شئ }.
7- نقص التربية أيضاً ولكن متمثلاُ فى عدم الوعي بما يحدثه الزنى من أخطار صحية ونفسية وخلقية ودينية، فالخطر الصحي: فمرض السيلان ينتقل عن طريق الزنى، وهو يسبب التهابًا حادًا ومزمنًا في الرحم والخصيتين، وقد يؤدي إلى العقم، وإلى التهاب في المفاصل، وقد يؤثر على المولود فيصاب بالعمى. وكذلك أمراض التقرحات الجنسية؛ والتي تنتقل بالالتقاء الجنسي المحرم، وتسبب في العقد البلغمية، وقد تؤدي إلى خراجات قيحية مزمنة، والتهابات في المجاري البوليه. وقد يصاب بعض الأولاد بمرض النضج الجنسي المبكر نتيجة لتهيج الشهوة قبل أوانها، واستثارة الغريزة قبل اكتمالها. وأخطر ما يسببه الزنا مرض (الإيدز) والذي يؤدي إلى فقدان مناعة الجسم المكتسبة.
أما الخطر النفسي والخلقي: قد يصاب هذا الشهواني المندفع نحو البهيمية بمرض اللواط والسحاق، وهو مرض خطير من نتيجته اكتفاء الرجال بالرجال، والنساء بالنساء، وقد يصاب بمرض الهوس الجنسي، حيث ترى المريض الشهواني المندفع مشغولاً في جميع أوقاته بتخيلات شهوانية غريزية من نكاح وتقبيل، وضم وعناق، وشبه ذلك، وتراه منصرفًا عن كل شئ، فيكثر نسيانه ويقل اهتمامه، وتشتد غفلته ويضعف انتباهه، وتراه كأنه مخمور، أو كأنه محزون. وتسبب هذه الظاهرة الأليمة نحولاً في الجسم، وضعفًا في الذاكرة، وقلقًا في النفس، وهناك أخطار اجتماعية، وهي عدم تكوين الأسر، وظلم المواليد الذين يولدون من غير زواج شرعي.
والخطر الديني فالفرد الذي لا يستعف عن محارم الله، ولا يصون نفسه عن مزالق الشهوة والفتنة، يصاب بأربع خصال ذميمة، ذكرها النبي r ، فيما رواه الطبراني في الأوسط حيث يقول r : { إياكم والزني، فإن فيه أربع خصال: يذهب البهاء من الوجه، ويقطع الرزق، ويسخط الرحمن، ويسبب دخول النار }.
ومن الخطر الدينى أيضاً أن الزاني حين يزني ينسلخ من ربقة الإيمان، فقد روى الإمامان البخاري ومسلم عن النبي r ، أنه قال: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن).
8- عدم التبكير بالزواج:
فالتبكير بالزواج مما يساعد المرء على التقوي والابتعاد عن الزنى، وقد قال r : (يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء). والشباب الذين نادى عليهم الرسول r ، هم من بلغوا الحلم ولم يتجاوزوا ثلاثين سنة، والباءة الجماع، والوجاء كخصاء لفظًا ومعنى، أي قامع للشهوة.
وإذن فكل من بلغ وكانت له القدرة على الإنفاق والجماع، فهو مطالب بالزواج، والزواج يساعد على غضِّ البصر عما لا يحلُّ، ويحفظ فرجه من الزنى. والزواج شرع الله، فمن فمن تركه متعمدًا فقد ترك سنة محمودة.
وفي الحديث الذي يرويه أبي هريرة عن رسول الله r قال: (من كان موسراً لأن ينكح فلم ينكح فليس مني).
وإذا عجز المرء عن الزواج لأسباب قاهرة:
فعليه بالصوم، فإنه يخفف من حرارة الشهوة، ويقلل من الغلمة لقوله r : (فمن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء)، وليلازم جانب العفَّة حتى يتيسر له أمر الزواج، وفي القرآن الكريم: } وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ { [33- النور]. أي فليجتهد المسلم في العفة وقمع الشهوة ما دامت لم تيسر له سبل الزواج، فإن العبد إذا اتقى الله جعل له من عسره مخرجًا.
ويجب على المجتمع أن يجتهد لتيسير الزواج وتوفير السكن وفرص العمل، وأقول فى ذلك أن عودة الأخلاق والمعاملات الإسلامية الرحيمة والأساليب التى تمسك بها سلفنا فى الزواج عليها معول كبير لتيسير الزواج.
9 فقدان الرادع:
أما ردع الزناة بالجلد والتغريب أو الرجم، فهو آخر الأسلحة لعلاج هذه القضية الفتَّاكة، فمن لم يستطع غلق الأبواب المفتحة على الزنى المشار إليها سابقًا، ولم يقدر على دفع الفحشاء، ولم يمتثل للسنة النبوية التي أمرت بالزواج، ولم يقم بالصوم كعلاج نبويٍّ وقائي قامع للشهوة، ثم ارتكب الزنى، فالشرع أمر بجلده وتغريبه إذا كان عزبًا، أو رجمه بالحجارة حتى يموت إن كان محصنًا. والمحصن كل من سبق له زواج شرعي، سواء بقي في زواجه أو طلق وأصبح ثيِّباً. قال تعالى: } الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ { [2- النور]، أما المحصن الذي سبق له زواج شرعي فيرجم بالحجارة حتي يموت وقد ورد حديث الرجم في الصحاح عن عبد الله بن عباس t ما قال:
(خطب عمر فقال: إن الله تعالى بعث محمدًأ r بالحق، وأنزل عليه الكتاب، فكان فيما أنزل عليه آية الرجم، فقرأناها ووعيناها، ورجم رسول الله r ورجمنا، وإني خشيت إن طال زمان أن يقول قائل: ما نجد الرجم في كتاب الله تعالى، فيضلون بترك فريضة أنزلها الله تعالى، فالرجم حقٌّ على من زنى من الرجال والنساء إذا كان محصنًا إذا قامت البينة أو كان حمل أو اعتراف، وأيم الله لولا أن يقول الناس: زاد عمر في كتاب الله تعالى لكتبتها).
وقد أخرج الإمامان أحمد وابن حنبل، والطبراني في الكبير من حديث أبي أمامة بن سهل عن خالته العجماء أن فيما أنزل الله من القرآن: (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة، بما قضيا من اللذة).
علاج الإسلام لإنتشار الآفات الجنسية فى المجتمع
وعلاج الإسلام لهذه الأمراض الخطيرة يقوم أساسًا على:
- سد الأبواب المفتّحًة التي تؤدي إليها وغلق الدواعي التي تتسبب فيها وهذا أمر واسع يتطلب تضافر وتعاون الجميع.
- تخصيص دروس تربوية واعية في هذا الميدان للتوعية وتكوين المروءة وتهذيب الأخلاق وترسيخ المعنى لدى الشباب أن التنظيم والتشريع الإسلامى لتصريف الطاقة الجنسية إنما جعل لمصلحة الشاب والفتاة والمجتمع برمته لا للتعنت ولا لحرمان أحد من سعادته.
- ثم التعجيل بتزويج الأيامى بعد انتهاء سن المراهقة والدخول في سن الشباب.
- مع الرجوع إلى إقامة الحدود الشرعية لأنها الصالحة للردع في كل زمان ومكان.
وهكذا نجد أن نظرة الإسلام إلى الجنس قائمة على إدراك فطرة الإنسان، ورامية إلى تلبية أشواقه وميوله، حتى لا يتجاوز أي فرد حدود فطرته، ولا يسلك سبيلاً منحرفًا يصطدم مع غريزته، وقد أنزل الله من التشريعات والأحكام ما يلبي حاجات هذه الميول والغرائز، وما يكفل لها الاستمرار والنماء والبقاء. وما الزواج الشرعي إلا تلبية لغريزة الميل إلى الجنس الآخر ليسير الإنسان مع فطرته الجنسية، وميله الغريزي بكل تلاؤم. ولذلك حرَّم الإسلام العزوف عن الزواج والزهد فيه ولو بنية التفرغ للعبادة، والتقرب إلى الله،
بل إنه من نظرات الإسلام الصائبة إلى الجنس اعتبار تصريف الشهوة بالحلال، وإشباع الغريزة بالزواج، من الأعمال الصالحة التي يؤجر عليها المسلم. روى الإمام مسلم في صحيحه عن أبي ذر الغفاري t :
{ إن لكم بكل تسبيحة صدقة، وبكل تكبيرة صدقة، وبكل تهليلة صدقة، وبكل تحميدة صدقة، وأمر بمعروف صدقة، ونهيٌ عن منكر صدقة، وفي بضع أحدكم صدقة؟ قالوا يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال r : أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ قالوا: بلى، قال: فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له فيها أجر }.
ثانيًا[2]: التربية الإيمانية.
ويقصد بالتربية الإيمانية هنا تربية الشباب على أخلاق أهل الإيمان، وتدريبهم على السلوكيات الإسلامية؛ حتى يصيرون يمثلون الإسلام في كل حركاتهم وسكناتهم، ويكونون هم المعنيون بقول الله U : } إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى { [13- الكهف].
مسئولية الآباء في متابعة الأبناء
وهذه المسئولية كلفهم بها الله U ورسوله r .
فيجب على كل مؤمن أن يكون له عين يقظة على تصرفات أولاده وبناته، ترعاهم عند الصلاة، وترعاهم عند مشاهدة التلفاز، وترعاهم عند اختيارهم للأصدقاء حتى لا يصطحبون قرناء السوء، وترعاهم عند ممارسة هواياتهم، وتراقبهم في عاداتهم، ويوجهونهم إلى الكمالات الإنسانية، والأخلاق الإيمانية باللطف والرقة واللين
فيا أخي المؤمن اجعل نصب عينيك قوله تعالى: } وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى { [132- طه].
وإياك أن تأخذك الشفقة بولدك أيام الامتحانات، وتقول: الولد مشغول وليس من المهم أن يحافظ على الصلاة الآن؛ لأنه مشغول بالاستذكار - وهذا ما يلجأ إليه بعض ضعاف النفوس، مع أن الله U لا يبارك في عمل يلهي عن الصلاة - أو تقول له: اذهب إلى الدرس، واجمع الظهر مع العصر، ولا بأس عليك في ذلك. بل عليك أن تجعل أكبر همِّه، وأعظم حرصِهِ على العمل بأحكام دينه، والاقتداء بسنن نبيِّه، وتنفيذ أوامر ربه، حتى تكون مطمئن البال إلى أنك أنجبت رجالاً يمتثلون لأمر الله، وينفذون تعاليم الله.
واحكي لهم الأمثلة الطيبة من قصص سلفنا الصالح، بل ومن عبر هذه الحياة بما يجعلهم يتمسكون بالفضيلة، ولا ينخدعون بما تنشره لهم بعض وسائل الإعلام، والتي تصور لهم براعة الغش ومهارة الخداع، وتزيِّن لهم أقصر طريق للوصول إلى مآربهم الدنيوية وآمالهم الفانية هو الخداع والمؤامرات وأساليب النفاق. فإذا فعلت ذلك فنم بعد ذلك في قبرك قرير العين، وتأكد أنهم في حصن الله وفي كنفه U.
فقد ورد عن عمر بن عبد العزيز t أنه خلف ثلاثة عشر ولدًا، ولم يترك لكل واحد منهم إلا دينارًا واحدًا عند وفاته - مع أنه كان خليفة المسلمين - فعاتبه بعض أقاربه وقالوا يا أمير المؤمنين، تركت أولادك ضياعًا!! فقال t أولادي أحد رجلين: أما الصالح منهم، فيتولاه الله: } وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ { [196-الأعراف]، وأما الطالح منهم، فما كنت أترك له ما أعينه به على فسقه وفجوره؛ فأشاركه في الوزر، فلم يمر عليهم عام واحد بعد وفاته إلا وقد حصّل كل رجل منهم مائة ألف دينار من التجارة الحلال بركة من الله U بسبب هذا الأب الصالح.
وقد حكى القرآن الكريم أن الله U أرسل نبيًّا كريماً ووليًّا عظيماً إكرامًا للجد السابع في قوله سبحانه: } وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا { [82- الكهف].
فقد روي أن المقصود بالأب الصالح في هذه الآية كان الجد السابع لهؤلاء الأبناء، فأرسل الله إليهم نبيًا كريمًا، ووليًا صالحًا ليقيما الجدار الذي تصدَّع ببيتهم، حتى يبلغا الرشد ليستخرجا كنزهما عناية من الله بسبب صلاح جدَّهم السابع!! فما بالك إذا كان الأب الصلب صالحاً؟ وماذا يكون حال أولاده وأهله وذويه؟!!
وهناك المثال المغاير، أولاد الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك، فقد ترك ثمانية عشر ولدًا، وترك لكل واحد منهم مائة ألف دينار، فلم يمر عليهم عام واحد إلا وصاروا يتكففون الناس بعد أن ذهبت أموالهم في اللهو والشهوات؛ وذلك لأنه لم يربيهم على التُّقى والإيمان.
فأول تكليف كلَّفك به الله U نحو أولادك أن تحفظ عليهم الإيمان، وأن تربيهم على قيم الإسلام وعلى تعاليم النبي العدنان، وأن توالي هذه القيم بنفسك؛ لأن مجتمعنا لن تنصلح أحواله إلا إذا ظهرت القيم الإسلامية.
فإن المجتمع لن ينصلح حاله ولو كان كله مهندسين وأطباء، إلا إذا كانوا متخلقين بأخلاق السماء، لكن ماذا ينفع الكم الكبير من المهندسين والأطباء وغيرهم، إذا لم يكن عندهم مراقبة لله، ولا يتورعون عن الغش لعباد الله، ولا يرحمون البائس والفقير والمسكين ويتنازلون له عن الأجر ابتغاء وجه الله! فقد وصف الله U مجتمع المؤمنين بوصف جميل فيقول: } مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ { [29- الفتح].
وليس معنى هذا أننا ننكر ما يفعله الآباء نحو أولادهم من تسابق إلى حجز الدروس الخصوصية لضمان تفوقهم في الدراسة، ومتابعتهم الجادة في تحصيل علوم الحياة الحديثة، فإن هذا ما دعا إليه الإسلام. بل إن الإسلام يجعل كل شئ يوفره الأب لابنه من طعام أو شراب، أو ملبس أو درس، يُثاب الأب عليه إذا صدقت نيته، لقوله r :
{ نفقة الرجل على أهله كالنفقة في سبيل الله، الدرهم بمائة ألف درهم {، وقوله : { دينار أنفقته في سبيل الله، ودينار تصدقت به على الفقراء والمساكن، ودينار أعتقت به رقبة، ودينار أنفقته على أهلك، خيرهما وأعظمهما أجرًا عند الله الذي أنفقته على أهلك }.
فكل مال ينفقه على أهله وولده فله ثوابه عند الله U ، وألا يطالب ولده بعد تخرجه بعوض ما أنفقه عليه، أو يعيره بما أنفقه عليه ويقول له: لقد أنفقت عليك كذا وكذا، ولكن كل هذا لم ينفع، ولم يؤثر فيك.
لكن الذي أريد أن أنبه نفسي وإخواني المسلمين إليه، هو أن معظمنا يظن أن كل ما عليه نحو أولاده هو تربية أجسامهم، وقد يزيد البعض على ذلك تعليمهم العلوم العصرية في المدارس والجامعات، ويفسرون بذلك قوله r : { كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته }، ونسينا المهمة العظمى وهي التربية الإيمانية والتي إليها الإشارة بقول الله:} يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ { [6التحريم]، و(قوا) يعني: احموا واحفظوا أنفسكم وأزواجكم وأولادكم وبناتكم من غضب الله وعذاب الله بتربيتهم التربية الإيمانية الحقة.
وهنا يا إخوانى الكرام أجمل لكم تلك الأسس فيما يلى:
أسس التربية الإيمانيـــة
أولا: القيم الإسلامية
فالصدق والأمانة والمروءة والوفاء والسماحة والعدالة والمساواة وغيرها قيم ذبحتها المادية الخبيثة لتنشر مبادئها الهدامة كالشيوعية والوجودية، مع أن الحياة بغير هذه القيم تتحول إلى جحيم لا يطاق، والإسلام لا بهذه المبادئ كشعارات جوفاء، وإنما يدعو إلى تطبيقها على مسرح الحياة، حتى نراها على أولادنا، ونلمسها في بيوتنا، ونحس بها في أعمالنا.
وإليك هذا المثال الرائع لحرص الإسلام على هذه القيم: فهذا رجل مسلم دخل في الإسلام حديثًا، وقد كان ذلك أثناء سفره بتجارة كبيرة لقريش إلى بلاد الشام - وهو العاص بين الربيع زوج السيدة زينب بنت رسول الله r - وعندما كان في طريق العودة على مقربة من المدينة، أشار عليه بعض المنافقين قائلا: ما دمت قد أسلمت فخذ هذا المال غنيمة لك، ولا ترجع إلى مكة، فقد استولوا على أموال إخوانك المسلمين - وهؤلاء يقول الله تعالى فيهم وفي أمثالهم في كل زمان ومكان : } شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا {[112- الأنعام]:.
وما أكثرهم في زماننا يزينون للناس الشر فيقول أحدهم: أنت رجل فقير ولا بأس أن تأخذ من مال الدولة لأنك محتاج، فإذا لم يتيسر لك ذلك فلا مانع من الرشوة ـ لكن انظر إلى هذا الرجل الذي ملأ اله قلبه بحقيقة الإيمان حيث قال: (لا ... لا أبدأ حياتي في الإسلام بالخيانة). وذهب إلى مكة، وسلم التجارة والأموال لأهلها، ثم قال لهم: (يا أهل مكة ماذا تعلمون عني؟ فقالوا: لا نعلم عنك إلاَّ كل خير. فقال: هل بقي لكم شئ في ذمتي؟ قالوا: لا، وجزاك الله خيراً. قال: فإني أشهدكم أنه لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله).
وقد كان المثل الأعلى في ذلك نبيكم الكريم صلوات الله وسلامه عليه، فقد كان أهل مكة يحاربونه ويؤذونه، بل ويتفنون في إيذائه، ومع ذلك كانوا يسلمون له أماناتهم ليحفظها عنده ولم يغره استيلاؤهم على أموال أصحابه، وعلى دورهم، وعلى تجاراتهم أن يأخذ شيئًا من هذه الأمانات حين هجرته لأنه كان حريصًا r أن يثبت دعائم الأمانة، وقواعد الوفاء في هذا الدين، حتى أنه عرَّض حياة ابن عمه الإمام علي بن أبي طالب للخطر حين أمره أن يبيت مكانه ليؤدي الأمانات إلى أهلها، ليعلم العالم أجمع أن الإسلام دين القيم والمبادئ والمثل.
ثانيا: مكارم الأخلاق
وهي الغاية التي حددها r من أجل بعثته حيث يقول:
{ إِنَّمَا بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الأَخْلاَقِ }
فمكارم الأخلاق كالعفو عند المقدرة، والتجاوز عن المسئ، والعفو، والصفح، والإحسان إلى من أساء وغيرها، هي الهدف الأسمى من العبادات الإسلاميه. فمثلاً: لماذا فرضت علينا الصلاة؟
يجيب على هذا السؤال قول الله U : } إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ { [45- العنكبوت]. فالهدف من الصلاة هنا، أن تبقي الملاحظة الإيمانية في وادي قلبك، فتراقب النوافذ التي يدخل منها الشيطان كالعين والأذن واللسان والفرج والبطن، ولا تسمح بالدخول منها إلا لمن أذن الله له بالدخول، أو أذن له حضرة الرسول r .
فإذا دخل عن طريق العين مثلاً شئ يغضب الله، دق جرس الإيمان في قلبك منبهًا لتتنبه إلى أن هناك شئ غريب تسلل إلى مملكتك، وهذا لو تركته ولم تقض عليه، ربما يفسد عليك حالك، أو يُذهب صلاح قلبك، أو ربما يجعل حالك حال غوي، أو ضال شقي - والعياذ بالله. وربما مال بك إلى حال المنافقين، وكل هؤلاء تبغضهم السماء، وتلعنهم الملائكة. أما أهل الإيمان فيقول في شأنهم الله U :
} إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ { [201- الأعراف].
وقد أجمل ذلك أكثم بن صيفي حيث قال: (لو لم يكن ما أتى به مُحَمَّدٌ – r - دينًا لكان في أخلاق الناس حسنًا).
ثالثا: بناء المراقبة الإيمانية (الضمير)
أخي المؤمن مهما شرع المشرعون، ومهما قلد المقلدون، ومهما أصدر مجلس الشعب أو مجلس الشورى، أو غيرهم من لوائح وقوانين، فلن تنصلح أحوالنا إلا إذا ربينا الضمير في نفوسنا، وفي نفوس آبنائنا وبناتنا، فهو العلاج الوحيد، ولا علاج سواه، ولن ينجينا من تخبطنا شرقًا وغربا إلا الضمير، ولن يصلح أحوالنا إلا الضمير، ولن يصلح الضمير إلا الدين الذي جاءنا به اللطيف الخبير سبحانه. وإلاَّ فبالله عليك خبرني أي قانون في دنيا الناس يجعل المرء يعترف بذنبه على رؤوس الأشهاد؟.
فإننا نرى في زماننا من يرتكب الخطيئة، ويفعل الفاحشة، ويعمل المنكر، وإذا وقع تحت طائلة العقوبة لجأ إلى التزوير وإلى الكذب، وأعانه شهود الزور وما أكثرهم! وساعده تلفيق المحامين، وما أكثر تلفيقهم!، بل ربما لجأوا إلى رشوة القضاة ليأخذوا حقًا من مظلوم ويعطوه لظالم.
لكن في ذلك الزمن الفاضل فهذه امرأة لم تتخرج من جامعة، وليس معها دكتوراه، ولم تتعلم في طوكيو أو لندن أو واشنطن، ولكنها تربت على مائدة الإيمان، وكل ما اكتسبته من العلوم والمعارف إنما هو الإيمان القوي بالله U ، هذه المرأة تذهب إلى رسول الله r لأن هيئة الرقابة الداخلية دفعا إلى هذا العمل فوقفت أمامه ولم تخجل وقالت: يا رسول الله زَنَيْتُ!!
فكرَّر r القول قائلا: لعلك قبَّلت، لعلك فاخذت، لعلك ضاجعت وهي تصرُّ على قولها مؤكدة اعترافها: زنيت. فقال r : ما الذي دعاك إلى هذا الاعتراف؟!! قالت سمعتك تقول: ( من أقيم عليه الحد في الدنيا لم يعذبه الله U به يوم القيامة). فهي تريد أن تطهر خوفًا من عذاب الله U يوم القيامة.
فأراد r ، أن يلتمس لها المعاذير، والنيابة المحمدية دائما في جانب المتهم تلتمس له مخرجًا، وتحاول أن تجد له عذرًا، لأنها لا تريد أن تعذِّب أحدًا، أو تحكم على أحد بغير حق، لقوله r : (لأن يخطئ الإمام في العفو، خير من أن يخطئ في العقوبة). أي لأن يخطئ فيحكم بالبراءة على مجرم، خير من أن يحكم بالعقوبة على برئ، فيكون إثماً كبير يوم لقاء العلي الكبير، فقال لها r : هل بعقلك شئ؟ قالت: يا رسول الله إني حامل. فقال r : من الذي يتولى أمرها: قالوا عمها. قال ائتوني به. فلما جاء قال له: خذها وأكرمها ولا تهنها حتى تضع ما في بطنها، فلما أتمت الوضع جاءت وكرر عليها الاعتراف مرة أخرى فثبتت على اعترافها، فقال لوليها: خذها حتى تتم رضاع طفلها حولين كاملين، ثم ائتني بها، فجاءت بعد العامين وقرَّرها فأصرَّت على الاعتراف، فقال: حتى يكبر الطفل، فقالت: يا رسول الله إنه قد فطم ويأكل وحده. وأشارت إلى الطفل وبيده قطعة خبر يأكلها فقال r : أقيموا عليها الحد.
وبينما القوم يرجمونها بالحجارة، أصابت قطرة دم منها ثوب سيدنا خالد بن الوليد فسبَّها، فغضب رسول الله r وقال: (لقد تابت توبة، لو وزِّعت على أهل المدينة جميعًا لوسعتهم).
من الذي يبني هذه المراقبة الإيمانية في قلب ابني؟!!
لا المدرسة، ولا الدروس الخصوصية التعليمية!! وإنما الدروس الخصوصية الإيمانية التي نتعلمها من الجامعة القرآنية، ومن قناة التليفزيون الإيمانية؛ فهي التي تبني عند الأولاد مراقبة الله، وتجعلهم يراقبون الله U في السرِّ والعلانية، والجهر والخفاء، وهؤلاء حتى ولو كانوا فقراء فلا تخشى عليهم لقول الله U :
} وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيدًا { [9- النساء].
أما الذي كافحت معه حتى تخرج من الجامعة وأصبح في منصب كبير، ولم يحصل على شهادة مراقبة الرقيب U ، فإنه يتعرض للأهواء، وقد يسير في طريق الفحشاء، أو تحتوشه شياطين الإنس، فيكون مصيره جهنم، وهناك يتعلق بك، ويكون الأمر كما قال r فيما رواه الطبراني:
(إذا كان يوم القيامة يتعلق بالرجل أهله وذويه ويقولون: يا ربنا خذ لنا بحقنا من هذا، فيقول الله U : وما ذاك؟ فيقولون كان يطعمنا من الحرام، ولم يعلمنا أحكام الإسلام).
فلو درَّبت أولادك يا أخي على مراقبة الله، وعلمتهم قيم الإيمان، ونزعت بعنايتك، وأخرجت بحسن تربيتك، واقتلعت بحسن طريقتك في توجيههم ما في صدورهم من غلِّ وحقد لبعضهم أو لجيرانهم، أو لأقاربهم وأحبابهم، فأطمأن كل الاطمئنان أنهم سيعاملون بقرار الحنان المنان:
} مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً - في الدنيا - وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ - في الآخرة { [97- النحل]. وتدخل أنت في قوله r :
(إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له).
فإذا ربيتهم على تعاليم الرحمن، وأجلستهم على مائدة القرآن، وحببتهم في الصفات والخصال التي أثنى على أهلها القرآن، وبغَّضت إليهم الأخلاق والأفعال التي حذَّر منها القرآن، ونفَّر منها النبي العدنان، فسيأتون في ميزان حسناتك يوم لقاء حضرة الديان فيكون عملهم شافع لك، ويكون لك مثل أجرهم جميعًا، لأنك السبب في هذه الأعمال، والأصل في غرس هذه الخصال والفعال، فقد كان منك هذه العناية، وبك نالوا تلك الرعاية، والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً.
لن يستطيع شبابنا مقاومة التيارات الإلحادية المعاصرة، أو مواجهة أتون الشهوات المستعرة، أو الوقوف أمام تيارات المادة الجارفة، إلا بجهاد النفس على وفق الشريعة المطهرة، وغرس مُثلها وقيمها في قلوبهم، لتكون هي الحصن الذي يتحطم عليه كل التيارات الوافدة. فإن الانتصار في ميدان القتال في زمننا صار سهلاً لأنه يتم بواسطة المدافع والدبابات والطائرات وغيرها من وسائل الدمار، لكن التغلب على نزعات النفس وحظوظها وأهوائها ورغباتها هو الذي يحتاج إلى الجهاد الأعظم جهاد النفس.
فنحن لا نحتاج لإصلاح أحوال مجتمعنا لتغيير اللوائح والقوانين، بقدر حاجتنا الماسة إلى تغيير ما بالنفوس لقول الله U فى [11- الرعد].:
} إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ {
فالذي بالنفس ويجعلها ترضخ للمغريات، وتُقبل على الشهوات، وتنسلخ من مبادئها، هو الطمع والشح، والحرص والشَّره، والغفلة والحقد، والحسد والغل، وغيرها من الصفات الذميمة ولا تتغير النفس من نفس أمّارة أو خبيثة إلى نفس لوامة أو مطمئنة إلا بالتخلي عن هذه الصفات، واقتلاع هذه الآفات مصداقًا لقول الله U فى [47- الحجر]. :
} وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ {
فكل صفات النفس التي تحجبها عن الأنوار، وتُقعدها عن متابعة النبي المختار، وتجعلها تخلد إلى دار البوار، يجب على شبابنا التنبه إلى أخطارها، والعمل على اقتلاعها من جذورها، فالنفس كما قال الإمام أبو العزائم t في شأنها: هي النفس للداني تحنُ وترغب وللعاجل الفاني تميل وتطلب
هذه النفس كيف نعالجها؟ وكيف نقضي على شرورها ونزغاتها؟ أباللوائح والقوانين؟ أم بالدبابات والمدافع؟ لا هذا ولا ذاك. أنستطيع أن نُقَوِّمَهَا بالعلم الحديث؟ كلاَّ!!! فإن أوربا جعلت العلم المادي إلهاً يعبدونه من دون الله، ويدَّعون أنه يهيمن على كل شئ، فإذا سألناهم: ما رأي العلم الحديث في تعاطي الخمر؟قالوا: يحرمها ويجرمها - لأسباب كثيرة يضيق حيّز هذه الصفحات عن ذكرها - فلماذا تشربوها رغم كشف العلم عن مضارها؟! وهذا أيضًا رأي العلم في الزنا وغيرها من منكرات الطباع والأخلاق، ولكن العلم وحده ليس عنده القوة التي تدفعني إلى هذه المجاهدات وتلك المكابدات، .... لكن الذي يدفعني لها نور القرآن، وهدي النبي العدنان، وصلابة الإيمان.
نور القرآن
وقد قال في ذلك سيدنا عثمان بن عفان t : (إن الله يزع بالقرآن ما لا يزع بالسلطان). فنور القرآن هو الذي يستطيع أن يمنعني من العصيان، لكن أمر السلطان أستطيع أن أفر منه أو أتنصل، بل أستطيع أن أضيع كل ملابسات الجريمة، حتى ولو كان هناك شاهد ملموس عليّ كالبصمة على الإصبع، فالبعض يبتر إصبعه حتى تذهب آثار جريمته، لكن من الذي يستطيع أن يمحو آثار جريمته ممن يقول للشئ كن فيكون؟ إنه U يقول [105- التوبة]:
} وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ {
فالمؤمن الذي يشعر بداخله أن الله U يراه، يرى حركاته وسكناته، ويطلع على خواطره وعلى توجهاته وعلى نياته، كيف يعصاه؟.
إنه لا يستطيع عصيانه U حتى ولو كان في خلاء من الناس، لأنه تيقن بقلبه أن الله U لا يخلو منه زمان ولا مكان، وإن كانت عيون الحس لقصورها وضعفها لا تراه، لكن عيون القلب تشهد صفات الله وجمالات الله وكمالات الله ظاهرة في كل مظهر في هذه الحياة.
وإذا نظرت عيني إلى أي كائن تغيب المباني والمعاني سواطع
إذاً ما الذي يسوق الناس إلى البرِّ وفعل الخيرات، ويجعلهم يتمسكون بالفضائل كالهدى والعفاف، ويبتعدون عن الرذائل والمنكرات؟ جهاد النفس على نهج شريعة الله، وليس هذا الكلام الذي نقوله نظريًا، ولكن هناك التجربة العملية الناجحة التى خاضها محمد رسول الله r والذين معه. وكلنا نعلم ما كان عليه القوم من أخلاق جاهلية، ونزعات إبليسية، فقد كان بينهم من هو أشد من الشياطين فسادا وضلالا، ولذلك قدَّم الله U ذكرهم في الآية لخطورتهم على شياطين الجن، وذلك في قوله سبحانه: } شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا { [112- الأنعام].
وكان بعضهم في أفعاله وأحواله أضل من الأنعام ولذلك يقول الله U في شأنهم: } أُوْلَـئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ { [179- الأعراف].
فلم يكن عندهم معاني ولا فضائل تليق بتكريم الله للإنسان، أو تناسب الكمال الذي أعد الله له الإنسان.
لكن ماذا حدث؟ كل هذا تغير في طرفة عين على يد رسول الله r ، فقد أصبحوا بعد السفاهة حلماء، وبعد الجهالة علماء، وبعد الضلالة هداة حتى قال فيهم r : (علماء حكماء فقهاء، كادوا من فقههم أن يكونوا أنبياء).
لقد طهرهم r ، من صفات الجاهلية، وخلَّقهم بعد جهاد أنفسهم بالصفات الربانية من الرحمة والشفقة والعطف والبذل والإيثار والعفو والصفح وغيرها وكذلك الأخلاق القرآنية من التواضع والخشوع والإخبات والابتهال والتبتل وغيرها فلما نصروا الله بإقامة شريعته، وحفظ كتابه، والعمل بأحكام دينه، والحرص على وصاياه وتوجيهاته، نصرهم الله U على أعدائهم تنفيذاً لقوله U فى(7محمد): }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ{
ميادين جهاد المؤمنين
إن الذي أضاع حال معظم الناس في هذا العصر، اعتقادهم أن ميدان الجهاد في الحصول على الأموال فقط لأن بها تتيسر لهم وسائل الحصول على الشهوات، ونيل جميع الرغبات ولذلك سولت لهم أنفسهم أن كل طريق للحصول على المال فهو مباح ولو كان الغش أو الخداع، أو السلب أو النهب، أو النصب والاحتيال أو الكذب، فالمهم أن يحصل على المال بأي وسيلة وبأي كيفية ويبررون ذلك بقولتهم المغلوطة: الغاية تبرر الوسيلة.
لكن المؤمن يجاهد لتحصيل المال من طريق حلال، فإذا انتهى من سعيه على معاشه عمل بقول الله U لحبيبه ومصطفاه r : } فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ { [ 7و8- الإنشراح].
فتجده يجاهد في ميدان من الميادين التي أشار إليها القرآن، فبعضهم يجاهد ليكون مع القوم الذين يقول الله U فيهم: }رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ{ [37- النور].
وبعضهم يرغب في الدخول في مقام: } يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ { [54- المائدة] ويكتب في ديوان المحبين، فجهاده في التخلق بقول الله U : } يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ { [54- المائدة]
ومنهم من يودّ أن يكون:
} مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقًا { [69- النساء].
ونحن نطلب هذا المقام في كل ركعة من ركعات الصلاة حيث نقول:
} اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ { [ 7،8- الفاتحة]. والصراط المستقيم لا يكون بالصلاة فقط، ولكن بالجهاد في التحقق بقول الله U : } وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ { [69- النساء].
فإذا كنت أطيع الله U في القيام بالصلاة وأخالفه بالكذب على عباد الله، أو الخيانة للمؤمنين بالله فهذه طاعة مردودة لأن الدين لا بد أن يؤخذ جملة واحدة فالطاعة كما أقوم بها في العبادات لابد أن أقوم بها في المعاملات، ولا بد أن أتصف بها في الأخلاق، بل قد وصل الأمر ببعض الصالحين إلى التأسي برسول الله r حتى في العادات، كالنوم والأكل والشرب وما شابه ذلك، وذلك لرغبتهم الشديدة في أن يكونوا في معيته r .
إذن فالمؤمن يجاهد في ميدان من ميادين الجهاد التي وضحها القرآن، أو بيَّنتها سنة النبي العدنان، ويطلب بذلك الأنس بالله، أو التلذذ بذكر الله، أو التمتع بمناجاة الله بكلام الله، أو الدخول في معية سيدنا رسول الله، أو الحصول على الدرجات العالية في الجنة، أو ضمان الأمان في الدار الآخرة من عذاب الله والدخول في المقام الكريم الذي يقول فيه الله U : } أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ { [82- الأنعام].
ومن يفعل ذلك فهو الإنسان الذي تحقق بخلافة الله، واستحق تكريم الله في قوله جل شأنه: } وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً { [70- الإسراء]، وقد نَبَّه إلى بعض هذه المعاني الإمام عليٌّ t وكرَّم الله وجهه حيث يقول فى أبيات اشتهرت له:
أتزعم أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر
دواؤك فيك وما تبصر وداؤك منك ولا تشـعر
وأشار إلى ذلك الإمام أبو العزائم t في قوله:
يا صورة الرحمن والنور العلي يا سدرة الأوصاف والغيب الجلي
فيك المعاني كلها طويت فهل أدركت سِرًّا فيك من معنى الولي؟
فنحن نريد إصلاح النفوس أولا قبل إصلاح القوانين واللوائح، وإقامة النفوس الفاضلة قبل إقامة المباني والمنشآت، فإصلاح النفس هو الذي عليه المعوِّل الأول في الإصلاح، فلو أن فردًا واحدا فقط استطاع إصلاح نفسه، لفتح الله U به دولاً كاملة، لأن الله U يهيئ له الأسباب، ويفتح له القلوب، ويجري الخير على يديه، ويسوق البر في ركابه تحقيقًا لقوله سبحانه:
} وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا { [55- النور].
وفي هذا العصر الذي نحن فيه لن ينصلح حال مجتمعنا إلا إذا انتشر العلماء العاملون، والحكماء الربانيون، والأئمة المخلصون، يهذبون النفس بعلمهم وحالهم، ويخلعون منها الحقد والحسد والغل والبغض، ويملئونها بالحب والشوق والوجد والإيثار وينشرون أخلاق الأنبياء وصفات الأولياء.
فإذا امتلأت القلوب بهذه المعاني فستنحصر الجريمة في المجتمع، وتنزوي الأخلاق السيئة، وتتوارى الرذائل، وسنجد في قلوب شبابنا وبناتنا سدًا إيمانيًا منيعًا يصد التيارات الإلحادية والمادية الجارفة التي يسلطها علينا شياطين أوربا وغواة أمريكا، هذا السد الإيماني يجعل صاحبه من الفتية الذين يقول فيهم الله فى كتابه الحكيم:
} إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى { [13- الكهف].
فلو ألقي في وسط جهنم المعاصي في لندن أو باريس أو غيرها، فلن يستطيع أي إغراء أو إغواء أن يؤثر فيه أو يفتنه، لأن السد الإيماني بداخله يحفظه من ذلك. من أين بُني هذا السد؟ من كلام الله، ومن سنة رسول الله، والعمل بهما بإخلاص طلبًا لمرضاة الله U .
أما الذي ليس عنده هذا السد الإيماني فتجده يبحث عن المعاصي ليرتكبها، ويلح في طلب الدواعي التي تهيئ له الدواعي، وتتبرج له الدنيا، وتتزين له المعاصي !!! .... ولسان حالها يقول له : ..... هيت لك!! فيجيبها لسان حاله قائلاً : } قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ { [23- يوسف].
من الذي يصنع هذا السد ويبنيه في قلوب بنينا وبناتنا؟
العلماء العاملون والدعاء المخلصون الذين يقول فيهم الله جل شأنه:
} وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ { [24- السجدة]، وصلى الله على
صحيح مسلم عن أبى سعيد الخدرى عن أبيه
من رع.اية شباب الإسلام، أولاً كانتك التربية الجنسية.
رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه:
سنن الكبرى للبيهقي عن أبى هريرة
كانت هذه المحاضرة بين المغرب والعشاء بمسجد سيدي محمد أبو عامر بالزقازيق يوم الخميس 6/10/1994م