جهاد العارفين فى الأخلاق! كيف يطبعون أنفسهم على أخلاق القرآن، كيف يفطرون أنفسهم على أخلاق النبى العدنان، كيف يجاهدون أنفسهم وذواتهم حتى يكونوا على أخلاق حضرة الرحمن U .
هذا هو جهاد الكُمَّل من عباد الله ، وقد اختار الصالحون والصوفية هذا المسلك وجعلوه هو النموذج القويم الذى ينبى عليه التصوف فى كل زمان ومكان، ولذلك فنجد جلَّ تعريفات التصوف حول هذا المعنى، فقد قيل : { التَّصوُّف خُلُقٌ، فمن زاد عليك فى الخُلُق فقد زاد عليك فى الصفاء }، وقيل أيضاً فى موضعٍ آخر: { التَّصوُّف هو الأخلاق المرْضِيَّة، أو هو أخلاقٌ مرضيَّة }.
وهذا هو الأساس الذى به يتفاوت الصالحون والصوفيَّة والصادقون، وكلُّ ما تحكيه كتب الطبقات عن الصالحين والروايات التى يجب أن نعتدَّ بها ونشيعها هى ما يتعل{ًّقُ بهذه الأخلاق العالية التى اكتسبوها من جهاد أنفسهم.وأنتم تعلمون جميعا أن سيدنا رسول الله r كان يطبع أعزَّ أصحابه على ذلك، فهذا هو الصديق الأعظم tخرج مع رسول الله r متجهين إلى مكة فى حجة الوداع وقد وضع طعامه وطعام رسول الله على جملٍ واحدٍ وسلَّمه لغلام، وأمره أن يحفظ الجمل وحسب، فسها الولد فضاع الجمل بما عليه من الطعام، فعنَّفه أبوبكر وخرج منه لفظ لعنٍ له وإذا برسول الله r يمرُّ به ويسمعه فقال له:{ لَعَّانِينَ وَصدِّيقِينَ؟ كَلاَّ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ ِِ}[1]{ قالت السيدة عائشة: فَعَتَقَ أَبُو بَكْرٍ t يَوْمَئِذٍ بَعْضَ رَقِيقِهِ. قالَ: ثُمَّ جَاءَ إلَى النَّبيِّ فَقَالَ: لا أَعُودُ }
لأن الصدِّيق لا يكون لعَّاناً، فلما أخطأ تاب واعتذر وكفَّر عن خطئه، وأخبر النبى r بذلك، فلا يلعن المؤمن إلا من لعن الله فى كتابه: لعنة الله على الظالمين! أو لعنة الله على الكافرين! وهى لعنةٌ عامة؛ فلا يلعن قوماً مخصوصين إلا إذا كان صدر فى حقهم قرار لعنٍ من ربِّ العالمين فى الكتاب المبين! ... فمهما رأى من أهل زمانه لا يصدر منه لعنٌ لأحدٍ منهم أبدا .
{ جَعَلَ رجلٌ يَشْتِمُ أَبَا بكرٍ t، ورسولُ الله جالسٌ، فَجَعَلَ يَعْجَبُ وَيَتَبَسَّمُ، فلمَّا أَكْثَرَ ذلكَ رَدَّ عليهِ أبو بكرٍ بعضَ قَوْلِهِ، فَغَضِبَ رسولُ الله، وقامَ، فَلَحِقَهُ أبو بكرٍ t فقالَ: يا رسولَ الله كانَ يَشْتِمُنِي وأنتَ جالسٌ، فلمَّا رَدَدْتُ عليهِ بَعْضَ قولِهِ غَضِبْتَ وقُمْتَ، قالَ: فَإِنَّهُ كانَ مَعَكَ مَنْ يَرُدُّ عنكَ، فلمَّا رَدَدْتَ عليهِ قَعَدَ الشيطانُ، فَلَمْ أَكُنْ لأَقْعُدَ معَ الشيطانِ، ثم قالَ رسولُ الله: يَا أَبَا بكرٍ، مَا مِنْ عبدٍ ظُلِمَ مَظْلِمَةً فَيُغْضِي عَنْهَا لِلَّهِ U، إِلاَّ أَعَزَّ الله U بِهَا نَصْرَهُ}[2]
ومن أحبنا إلى رسول الله؟ ومن أبغضنا إليه – أعاذنا الله بفضله من أن نكون منهم أو نتصف بببعض أوصافهم- نسأله ؛ فيجيبنا :
{ إنَّ أَحَبَّكُمْ إلَيَّ أَحَاسِنُكُمْ أَخْلاَقاً المُوَطِّئُونَ أَكْنَافاً الَّذِينَ يَأْلَفُونَ ويُؤْلَفُونَ، وَإنَّ أَبْغضَكُمْ إلَيَّ المَشَّاؤُونَ بِالنَّمِيمَةِ المُفَرِّقُونَ بَيْنَ الأَحِبَّةِ المُلْتَمِسُونَ لِلْبُرَآءِ الْعَيْبَ- وفى رواية: العثرات }
إذاً الأخلاق فيها أكمل التشبه برسول الله ، وهى أثقل شيىء فى الميزان وبها ينال المرء أرفع درجة فى الدار الآخرة فى حظوة النبى العدنان، ولذلك سئل :
{ أَيُّ المُؤْمِنِينَ أَكْمَلُهُمْ إِيماناً؟ قَالَ: أَحْسَنُهُمْ خُلُقاً، قُلْتُ: فَأَيُّ المُسْلِمِينَ أَسْلَمُ، قَالَ: مَنْ سَلِمَ النَّاسُ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ }
فميزان الحسن والكمال هو ميزان الأخلاق والخصال، وهى الفارق بين الإنسان المؤمن وغير المؤمن؛ فالمؤمن ملتزمُ بأخلاق الإيمان، وطهَّر نفسه من أخلاق النفاق التى حذَّر منها القرآن ونبَّه عليها النبى العدنان، وبها يكرم المرء أو يهان فى الدنيا ويوم لقاء الملك الرحمن. .
وبداية التخلق للتعلق أن يجاهد المرء نفسه أولا للتخلص من أوصاف المنافقين وقد أشرنا لذلك فى مواضع عدة لشدة أهميته، والنبى حذَّرنا فقال:
{ آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلاَثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ وَإِذَا ائْتُمِنَ خَانَ }، وفى رواية: { وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ } وفى أخرى: { وَإذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإنْ صَلّى وَصَامَ وَزَعَمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ } .
هذه الأوصاف ! أوصاف من، أوصاف المنافقين! فلكى يكمل الإنسان فى الإيمان ويؤذن له بالسير إلى حضرة الرحمن فلابد أن يطهِّر نفسه من هذه الأوصاف بالكلية! فلا يليق به مثلاُ أن يقول: هذه كذبة بيضاء! أو كذب على سبيل المزاح! أو اللهو! أو أقصد بها نيَّة حسنة، لأن النبى وهو من يؤتم به قال له أصحابه :
{ يا رسولَ الله إِنَّكَ تُدَاعِبُنا؟- أَى تُمَازحُنا- قالَ: إِنِّي لاَ أَقُولُ إِلاَّ حَقًّا } .
فمن يريد منازل الكمال لابد أن يُطَهِّر نفسه بالكليَّة من هذه الخصال!
هل الأخلاق تقبل التغيير؟
وهل الأخلاق فيها جهاد؟ قد تعلِّل النفس للبعض وتسوق مثل هذه الحجَّة كمبرر وتقول: جُبِل المرءُ على ما خُلِقَ عليه! أى لا سبيل له لتغيير خُلُقِه! .... وهذا كلامٌ محض إفتراء على الله ورسوله !!! ...، وهو حجة داحضة وباطلة تسوقها النفس،... ويُرَوِّج لها المنافقون ... ليبرروا لأنفسهم ماليس له مبررٌ عند ربِّ العالمين! ولا عند سيد الأنبياء والمرسلين .
ويزيدون الأمر بأن يضربوا مثلاً محسوساً فيقولون: هل يستطيع المرءُ أن يغير خلقته التى خلقه الله عليه؟ فكما لا يستطيع ذلك! لا يستطيع أيضاً أن يغير خُلُقَهُ الذى فطره الله عليه! هكذا يدعون! وهذه أيضاً حجة داحضة باطلة! كيف؟
الإنسان يُصفِّف شعره كما يريد ويطيله ويقصره! ويلبس جسده كما يشاء! فيبدو أحياناً بخلقَةٍ زاهية مشرقة وأحيانا بشكل قبيح غير مألوف ! وكلُّ ذلك من إجتهاد الإنسان وفعله، ومع تطور الدنيا فاليوم يجرون عمليات جراحية يغيرون بها الكثير من الشكل الظاهر! وأعجب من ذلك يفعلون!!
لكن الأخلاق لكى نعرفها جيداً؛ فهى صورة الإنسان الباقية التى يتعامل بها ويظهر بها أمام الآخرين .. فالصورة الظاهرة هى خلقة الله والصورة الباطنة هى التى فيها العفو أو الغلظة، فيها التسامح أو الشدة، فيها الكرم أو البخل، فيها الشهامة أو الخسَّة! فيها الحياء أو الفجور والسفور! وفيها وفيها ..... وكلُّ ذلك يظهر فى الصورة الباطنة التى فى داخل الإنسان! ..
فالصورة الظاهرة قد نكون فيها قريبى الشبه من بعضنا البعض! ولكن الصورة الباطنة تختلف.. فمن الناس من تكون صورته الباطنة على هيئة حيوان! وهذا نلمسه فى المجتمع .. لا همًّ له إلا فى شهوته! لاهمَّ له إلا فى شهوة البطن! أو شهوة النكاح! أو شهوة المشروبات المحرَّمة .. أو الأمور التى نهى الله عنها، فتجده كالحيوان لا عقل له يسوقه إلا شهوته! مهما قلت! ولذا قال فيهم الله فى غير موضع فى كتابه كاشفاً بعض تلك الصور الباطنة:
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ
: (12محمد)
: (12محمد)
وهم لا يعقلون إلا شهواتهم ولا يبصرون ولا يسمعون ففى ({ أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} 179 الأعراف
ومن الناس من صورته الباطنة على صورة شيطان! فتجده يجيد الدهاء والمكر الخبيث والخطط السيئة للمسلمين والمسلمات، والكيد للمؤمنين والمؤمنات، والتدابير المحرمة التى لا يرضاها عقلٌ سوىٌّ ولادين ولا خلق ولا تشريع إلهى ولا إنسانى؛ لأن صورته الباطنة صورة شيطان، وفيهم قال الرحمن فى محكم القرآن:
( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112) )الانعام ومن الناس من صورته الباطنة صورة ملاك طاهر؛ تجد فيه النقاء والطهر والصفاء، وطيبة الخلق وحسن التعامل ولين الكلام وإنتقاء الألفاظ! لا يغضب منه إنسانٌ بسبب قالة قالها فيها نهرٌ أو زجرٌ أو غضبٌ لأنه لا يصدر منه إلا الكلام الطيب اللين، كأنه المعنى بقوله فى كتابه الكريم (24الحج): وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ) .
أو كأنه ينفِّذ قول الله جلَّ فى علاه للمؤمنين من عباد الله : وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ
83البقرة)
وكلها صورٌ باطنةٌ، ولذلك عندما تحدَّث الله عن المؤمنين، جعل أوصافهم الباطنية هى الممدوحة والمُثْنَى عليها فى كلام ربِّ العالمين ماصورتهم يارب؟ لم يتكلم الله عن صورتهم الظاهرة لأنها ليست فيها مزية تنسب إليهم ولا يمدحون بسببها! لأنها من صنع الله الذى أتقن كل شيى! لكن المزية للإنسان والتى بها يرفع فى درجات القرب من حضرة الرحمن هى صورته الباطنية فهو الذى يسويها ويصورها ويكونها ويجاهد نفسه حتى ينشأها على كتاب الله أو على صورة حبيب الله ومصطفاه .. ماصورتهم يارب؟
(قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ) (1-2 المؤمنون)لم يتحدث الله عن أعمال الظاهر! ولكن أعمال الباطن.. حتى فى الصلاة!
00000وفروجهم أى جميع الفتحات الموجودة فى أجسامهم فهم يحفظون! وصلواتهم .. أى جميع صلاتهم إن كان صلة بالله أو بحبيب الله ومصطفاه أو بالصالحين من عباد الله، أو بالإخوان فى الله، أو بالجيران، أو بالمجتمع وأهله، أو حتى بالحيوان أو بنعم الله التى لهم بها صلة فى هذه الحياة! أمره الله أن يحافظ على هذه الصلات جميعاً رغبة فى إرضاء الله ..
فكلها أوصاف باطنية تخلقوا بها فاستحقوا مديح الله، ولذا قال الحكيم :
قل للذي جدَّ في عزيمته
يبغي من العلم أرفع الرتب
من قال في النائبات كان أبي
يدعى من الناس فهو غير أبي
«إن الفتى من قال ها أنا ذا»
«ليس الفتى من قال كان أبي»
[2] السنن الكبرى للبيهقي عن أبي هريرةَ ، ورواهُ اللَّيْثُ بنُ سعدٍ عن سعيدٍ المَقْبُرِيِّ عن بشيرٍ عن سعيدِ بنِ المُسَيَّبِ عن النبيِّ في قِصَّةِ أبي بكرٍ رضي الله عنه مرسلاً، دونَ مَا في آخِرِهِ من الترغيبِ في الإِغْضَاءِ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق