الجواب :
العلماء الربانيون الذين أثنى الله عليهم جمعوا بين نور العقل ونور القلب، وجمعوا بين نور العلم ونور الإيمان، وجمعوا بين نور الفطرة ونور النبوة، واهتدوا بصحيح المنقول، وصريح المعقول ووفقوا بين النصوص الجزئية، والمقاصد الكلية، وردُّوا الفروع إلى الأصول والمتشابهات إلى المحكمات.. العلماء الربانيون متوازنون وسطيون،
هم لا ينكرون أن يقذف الله في قلب عبدٍ من عباده نوراً يكشف له بعض المستورات والحقائق، ويهديه إلى الصواب في بعض المضايق والمواقف، بدون اكتساب ولا استدلال، بل هبة من الله تعالى، وإلهام منه،
إن هذا الإلهام أثر من آثار الإيمان العميق والعبادة الخالصة،
والمجاهدة الجهيدة..
لا ينكر العلماء الربانيون هذا الإلهام ؛لأن الله سبحانه وتعالى
يقول:﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ
سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29) ﴾
[سورة الأنفال]
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآَمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ
(28)﴾ الحديد
العلماء الربانيون لا ينكرون أن يقذف الله في قلب المؤمن نوراً يكشف له الحق والباطل، والخير والشر، والصواب والخطأ، وما صح وما لا يصح، وما ينبغي، وما لا ينبغي.
ولا نزاع أيضاً في أن الإيمان والعبادة والتقوى، ومجاهدة النفس لها أثرها في تنوير العقول، وهداية القلوب، والتوفيق إلى إصابة الحق في الأقوال، والسداد في الأعمال، والخروج من مضايق الاشتباه إلى الوضوح، ومن اضطراب الشك إلى ثبات اليقين.
وفى صحيح البخارى عن أبى هريرة عن النبى أنه قال ولا يزال عبدى يتقرب الى بالنوافل حتى أحبه فاذا أحببته كنت سمعه الذى يسمع به وبصره الذى يبصر به ويده التى يبطش بها ورجله التى يمشى بها وفى رواية فبى يسمع وبى يبصر وبى يبطش وبى يمشى فقد أخبر أنه يسمع بالحق ويبصر به وكانوا يقولون ان السكينة تنطق على لسان عمر رضى الله عنه وقال من سأل القضاء واستعان عليه وكل اليه ومن لم يسأله ولم يستعن عليه أنزل الله عليه ملكا يسدده وقال الله تعالى نور على نور نور الايمان مع نور القرآن وقال تعالى أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه وهو المؤمن على بينة من ربه ويتبعه شاهد من الله وهو القرآن شهد الله فى القرآن بمثل ما عليه المؤمن من بينة الايمان وهذا القدر مما أقر به حذاق النظار لما تكلموا فى وجوب النظر وتحصيله للعلم فقيل لهم أهل التصفية والرياضة والعبادة والتأله تحصل لهم المعارف والعلوم اليقينية بدون النظر كما قال الشيخ الملقب بالكبيرى للرازى ورفيقه وقد قالا له يا شيخ بلغنا أنك تعلم علم اليقين فقال نعم فقالا كيف تعلم ونحن نتناظر
فى كلما ذكر شيئا أفسدته وكلما ذكرت شيئا افسده فقال هو واردات ترد على النفوس تعجز النفوس عن ردها فجعلا يعجبان من ذلك ويكرران الكلام وطلب أحدهما أن تحصل له هذه الواردات فعلمه الشيخ وأدبه حتى حصلت له وكان من المعتزلة النفاة فتبين له أن الحق مع أهل الاثبات وان الله سبحانه فوق سمواته وعلم ذلك بالضرورة رأيت هذه الحكاية بخط القاضى نجم الدين أحمد بن محمد بن خلف المقدسى وذكر أن الشيخ الكبيرى حكاها له وكان قد حدثنى بها واحد حتى رأيتها بخطه وكلام المشايخ فى مثل هذا كثير وهذا الوصف الذى ذكره الشيخ جواب لهم بحسب ما يعرفون فانهم قد قسموا العلم الى ضرورى ونظرى والنظرى مستند الى الضرورى والضرورى هو العلم الذى يلزم نفس المخلوق لزوما لا يمكنه معه الانفكاك عنه هذا حد القاضى أبى بكر بن الطيب وغيره فخاصته أنه يلزم النفس لزوما لا يمكن مع ذلك دفعه فقال لهم علم اليقين عندنا هو من هذا الجنس وهو علم يلزم النفس لزوما لا يمكنه مع ذلك الانفكاك عنه وقال واردات لأنه يحصل مع العلم طمأنينة وسكينة توجب العمل به فالواردات تحصل بهذا وهذا وهذا قد اقر به كثير من حذاق النظار متقدميهم كالكيا الهراسى والغزالى
ولا نزاع أيضاً في أن الله يكشف لبعض المتقين من عباده حقائق العلم، وأنوار المعرفة، في فهم كتاب الله وسنة نبيه، بمحض الفيض الإلهي، والفتح الرباني، ما يلهث كثيرون ليحصلوا عليه بالمذاكرة والتحصيل، يقول سيدنا عمر رضي الله عنه: اقتربوا م أفواه المطيعين، واسمعوا منهم ما يقولون، فإنهم تنجلي لهم أمور صادقة.
ولكن إذا كان علم المنطق يضبط حركة العقل، وعلم أصول الفقه يضبط الاستدلال، هذا الإلهام كيف نضبطه ؟.. هل يُترك الإلهام فوضى فيبقى بابه مفتوحاً لمن هب ودب، ولمن تخيل واختال، ولمن لا يميز بين إلهام الملك ونفس الشيطان، أو لمن ادعى الوصول ولم يرع الأصول، أو لكل دجال يشتري الدنيا بالدين، ويتبع غير سبيل المؤمنين..
علم المنطق ضبط حركة العقل، وعلم أصول الفقه، ضبط الاستدلال، أما أن يبقى الإلهام مفتوحاً بابه، بلا ضوابط، وبلا قيود عندئذ يختلط الحق بالباطل، ويضيع أمر الدين..
الإلهام لا يُعتد به، ولا نعبأ به، ولا نأخذ به إذا خرم قاعدة شرعية أو حكماً شرعياً، هو ليس حقاً بذاته، هو إما خيال، أو وهم، أو إلقاء من شيطان، أو كشف من رحمان، فإذا عارض الإلهام ما هو ثابت في التشريع، الذي هو عام، وليس خاصاً، ولا ينخرم بالإلهام أصل التشريع، ولا ينكسر اطراده، ولا يُستثنى من الدخول تحت حكمه أحد، إن كان الإلهام موافقاً لقواعد الشرع، وأصول الدين نأخذ به في المباحات، أما إذا خالف قاعدة شرعية، أو خرم حكماً فقهياً أو كسر اطراد قاعدة، عندئذ لا نعبأ به ولا نأخذ به، شأنه شأن الرؤيا التي تخالف نصاً تشريعياً، بل إن الإنسان لو ـ افتراضاً ـ رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمره بترك حلال، أو أخذ حرام تُردُّ الرؤيا عليه، ويثبت الشرع.. أولى، ولأن الله سبحانه وتعالى يقول:
﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً (36)﴾
[سورة الإسراء]
لابد من علم، لابد من دليل..
وإن الإجماع، إجماع الأمة التي لا تجتمع على خطأ كما قال العلماء قالوا: الإلهام: إلقاء ما يُفرق به بين الضلال والهدى، ما يلقى في الروع بطريق الفيض، إلقاء في النفس أمراً يبعث على الفعل والترك.
قال ابن تيمية كما في المنتخب من كتب شيخ الإسلام ابن تيمية
- (1 / 159)
((وإذا كان القلب معموراً بالتقوى انجلت له الأمور وانكشفت، بخلاف القلب الخراب المظلم، قال حذيفة بن اليمان: إن في قلب المؤمن سراجاً يزهر. وفي الحديث الصحيح: (إن الدجال مكتوب بين عينيه كافر، يقرؤه كل مؤمن قارىء وغير قارىء) ؛ فدل على أن المؤمن يتبين له ما لا يتبين لغيره، ولا سيما في الفتن، وينكشف له حال الكذاب الوضاع على الله ورسوله؛ فإن الدجال أكذب خلق الله، مع أن الله يجري على يديه أموراً هائلة ومخاريق مزلزلة، حتى إن من رآه افتتن به، فيكشفها الله للمؤمن حتى يعتقد كذبها وبطلانها.وكلما قوي الإيمان في القلب قوي انكشاف الأمور له وعرف حقائقها من بواطلها، وكلما ضعف الإيمان ضعف الكشف، وذلك مثل السراج القوي والسراج الضعيف في البيت المظلم، ولهذا قال بعض السلف في قوله: {نُورٌ عَلَى نُورٍ}؛ قال: هو المؤمن ينطق بالحكمة المطابقة للحق وإن لم يسمع فيها بالأثر، فإذا سمع فيها بالأثر كان نوراً على نور؛ فالإيمان الذي في قلب المؤمن يطابق نور القرآن؛ فالإلهام القلبي تارة يكون من جنس القول والعلم، والظن أن هذا القول كذب، وأن هذا العمل باطل، وهذا أرجح من هذا أو هذا أصوب.وفي الصحيح عن النبي (؛ قال: قد كان في الأمم قبلكم محدثون، فإن يكن في أمتي منهم أحد فعمر)، والمحدث: هو الملهم المخاطب في سره، وما قال عمر لشيء: إني لأظنه كذا وكذا؛ إلا كان كما ظن، وكانوا يرون أن السكينة تنطق على قلبه ولسانه.
وأيضاً؛ فإذا كانت الأمور الكونية قد تنكشف للعبد المؤمن لقوة إيمانه يقيناً وظناً؛ فالأمور الدينية كشفها له أيسر بطريق الأولى؛ فإنه إلى كشفها أحوج، فالمؤمن تقع في قلبه أدلة على الأشياء لا يمكنه التعبير عنها في الغالب، فإن كل أحد لا يمكنه إبانة المعاني القائمة بقلبه، فإذا تكلم الكاذب بين يدي الصادق عرف كذبه من فحوى كلامه، فتدخل عليه نخوة الحياء الإيماني فتمنعه البيان، ولكن هو في نفسه قد أخذ حذره منه، وربما لوح أو صرح به خوفاً من الله وشفقةً على خلق الله ليحذروا من روايته أو العمل به. وكثير من أهل الإيمان والكشف يلقي الله في قلبه أن هذا الطعام حرام، وأن هذا الرجل كافر أو فاسق أو ديوث أو لوطي أو خمار أو مغن أو كاذب من غير دليل ظاهر، بل بما يلقي الله في قلبه.وكذلك بالعكس، يلقي في قلبه محبة لشخص، وأنه من أولياء الله، وأن هذا الرجل صالح، وهذا الطعام حلال، وهذا القول صدق؛ فهذا وأمثاله لا يجوز أن يُستبعد في حقِّ أولياء الله المؤمنين المتقين.)) اهـ.
ويقول في جامع الرسائل - (1 / 22)
((وأما خواص الناس فقد يعلمون عواقب أقوام بما يكشفه الله لهم، لكن ليس هذا مما يجب التصديق العام به فإن كثيراً مما يظن به أنه حصل له هذا الكشف يكون ظاناً في ذلك ظناً لا يغني من الحق شيئاً، وأهل المكاشفات والمخاطبات يصيبون تارة ويخطئون أخرى كاهل النظر والاستدلال في موارد الاجتهاد ))اهـ.
يقول العلامة ابن القيم رحمه الله
(وللفراسة سببان:
أحدهما: جودة ذهن المتفرس وحدة قلبه وحسن فطنته.
والثاني: ظهور العلامات والأدلة على المتفرس فيه فإذا اجتمع السببان لم تكد تخطىء للعبد فراسة وإذا انتفيا لم تكد تصح له فراسة وإذا قوي أحدهما وضعف الآخر: كانت فراسته بين بين.
وكان إياس بن معاوية من أعظم الناس فراسة وله الوقائع المشهورة.
وكذلك الشافعي رحمة الله وقيل: إن له فيها تآليف.
(2 / 489):
ابن القيم في مدارج السالكين
((ولقد شاهدت من فراسة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أمورا عجيبة وما لم أشاهده منها أعظم وأعظم ووقائع فراسته تستدعي سفرا ضخما:
ـ أخبر أصحابه بدخول التتار الشام سنة تسع وتسعين وستمائة.
ـ وأن جيوش المسلمين تكسر.
ـ وأن دمشق لا يكون بها قتل عام ولا سبي عام.
ـ وأن كلب الجيش وحدته في الأموال.
وهذا قبل أن يهم التتار بالحركة
ـ ثم أخبر الناس والأمراء سنة اثنتين وسبعمائة لما تحرك التتار وقصدوا الشام : أن الدائرة والهزيمة عليهم.
ـ وأن الظفر والنصر للمسلمين وأقسم على ذلك أكثر من سبعين يمينا.
فيقال له : قل إن شاء الله فيقول : إن شاء الله تحقيقا لا تعليقا . وسمعته يقول ذلك قال : فلما أكثروا علي قلت : لا تكثروا كتب الله تعالى في اللوح المحفوظ : أنهم مهزومون في هذه الكرة وأن النصر لجيوش الإسلام)) اهـ.
هكذا تكلم بن تيمية
فهل بلغ القائلون بالكشف ما بلغه ابن تيمية
حتى أنه خرق الحجب كلها وعلم ما كتب في اللوح المحفوظ؟؟!!
قال: وأطعمت بعض الأمراء والعسكر حلاوة النصر قبل خروجهم إلى لقاء العدو. وكانت فراسته الجزئية في خلال هاتين الواقعتين مثل المطر.
ولما طلب إلى الديار المصرية وأريد قتله بعد ما أنضجت له القدور وقلبت له الأمور: اجتمع أصحابه لوداعه وقالوا: قد تواترت الكتب بأن
القوم عاملون على قتلك فقال: والله لا يصلون إلى ذلك أبدا.
قالوا: أفتحبس قال: نعم ويطول حبسي ثم أخرج وأتكلم بالسنة على رؤوس الناس. سمعته يقول ذلك.
ولما تولى عدوه الملقب بالجاشنكير الملك أخبروه بذلك وقالوا: الآن بلغ مراده منك فسجد لله شكرا وأطال.
فقيل له: ما سبب هذه السجدة فقال: هذا بداية ذله ومفارقة عزه من الآن وقرب زوال أمره فقيل له: متى هذا فقال: لا تربط خيول الجند على القرط حتى تغلب دولته فوقع الأمر مثل ما أخبر به سمعت ذلك منه.
وقال مرة: يدخل علي أصحابي وغيرهم فأرى في وجوههم وأعينهم أمورالا أذكرها لهم فقلت له: أو غيري لو أخبرتهم فقال: أتريدون أن أكون معرفا كمعرف الولاة.
وقلت له يوما: لو عاملتنا بذلك لكان أدعى إلى الاستقامة والصلاح فقال: لا تصبرون معي على ذلك جمعة أو قال: شهرا.
وأخبرني غير مرة بأمور باطنة تختص بي مما عزمت عليه ولم ينطق به لساني.
وأخبرني ببعض حوادث كبار تجري في المستقبل ولم يعين أوقاتها وقد رأيت بعضها وأنا أنتظر بقيتها وما شاهده كبار أصحابه من ذلك أضعاف أضعاف ما شاهدته والله أعلم).انتهى كلام العلامة ابن القيم
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في "البداية والنهاية" : (وتوجه الشيخ تقي الدين ابن تيمية إلى العسكر الواصل من حماة ، فاجتمع بهم في القطيفة ، فأعلمهم بما تحالف عليه الأمراء والناس من لقاء العدو ، فأجابوا إلى ذلك ، وحلفوا معهم ، وكان الشيخ تقي الدين ابن تيمية يحلف للأمراء والناس : إنكم في هذه الكرة منصورون على التتار ، فيقول له الأمراء : قل إن شاء الله ، فيقول : إن شاء الله تحقيقا لا تعليقا ، وكان يتأول في ذلك أشياء من كتاب الله ، منها قوله تعالى : ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغي عليه لينصرنه الله إن الله لعفو غفور [ الحج : 60 ] . ) أهـ
هل الإلهام حجة في الشرع؟
قال ابن النجار الفتوحي الحنبلي في شرح الكوك المنير : ( بِإِلْهَامٍ ) ..... ( وَهُوَ مَا يُحَرِّكُ الْقَلْبَ بِعِلْمٍ يَطْمَئِنُّ ) الْقَلْبُ ( بِهِ ) أَيْ بِذَلِكَ الْعِلْمِ حَتَّى ( يَدْعُوَ إلَى الْعَمَلِ بِهِ ) أَيْ بِالْعِلْمِ الَّذِي اطْمَأَنَّ بِهِ ( وَهُوَ ) أَيْ الْإِلْهَامُ ( فِي قَوْلٍ : طَرِيقٌ شَرْعِيٌّ ) حَكَى الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى فِي الْإِلْهَامِ : هَلْ هُوَ طَرِيقٌ شَرْعِيٌّ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ .
وَحُكِيَ فِي جَمْعِ الْجَوَامِعِ : أَنَّ بَعْضَ الصُّوفِيَّةِ قَالَ بِهِ .
وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ نَقْلًا عَنْ أَبِي زَيْدٍ الدَّبُوسِيِّ، وَحَدَّهُ أَبُو زَيْدٍ بِأَنَّهُ مَا حَرَّكَ الْقَلْبَ بِعِلْمٍ يَدْعُوك إلَى الْعَمَلِ بِهِ مِنْ غَيْرِ اسْتِدْلَالٍ وَلَا نَظَرٍ فِي حُجَّةٍ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ : هُوَ حُجَّةٌ بِمَنْزِلَةِ الْوَحْيِ الْمَسْمُوعِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم . وَاحْتَجَّ لَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى ( { وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا } ) أَيْ عَرَّفَهَا بِالْإِيقَاعِ فِي الْقَلْبِ , وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى ( { فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ } ) وَبِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم { الْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي الصَّدْرِ , وَإِنْ أَفْتَاك النَّاسُ وَأَفْتَوْك } فَقَدْ جَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم شَهَادَةَ قَلْبِهِ بِلَا حُجَّةٍ أَوْلَى مِنْ الْفَتْوَى .
وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ خَيَالٌ لَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِهِ إلَّا عِنْدَ فَقْدِ الْحُجَجِ كُلِّهَا , وَلَا حُجَّةَ فِي شَيْءٍ مِمَّا تَقَدَّمَ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ الْإِيقَاعَ فِي الْقَلْبِ بِلَا دَلِيلٍ , بَلْ الْهِدَايَةُ إلَى الْحَقِّ بِالدَّلِيلِ , كَمَا قَالَ عَلِيٌّ رضي الله تعالى عنه : إلَّا أَنْ يُؤْتِيَ اللَّهُ عَبْدًا فَهْمًا فِي كِتَابِهِ . اه
وقيل : الإلهام ليس بحجة عند جماهير العلماء
ولا أحد من أهل الحق يجعلها دليلا مستقلا قائما بنفسه،
إن الإلهام يفيد العلم اليقينى عند صاحبه والأدلة على ذلك أكثر من ام تحصى فى الصحيحين عن النبى أنه قال قد كان فى الأمم قبلكم محدثون فان يكن فى أمتى أحد فعمر وكان عمر يقول اقتربوا من أفواه المطيعين واسمعوا منهم ما يقولون فانها تجلى لهم أمور صادقة وفى الترمذى عن أبى سعيد عن النبى أنه
قال اتقوا فراسة المؤمن فانه ينظر بنور الله ثم قرأ قوله ان فى ذلك لآيات للمتوسمين وقال بعض الصحابة أظنه والله للحق يقذفه الله على قلوبهم وأسماعهم وفى صحيح البخارى عن أبى هريرة عن النبى أنه قال ولا يزال عبدى يتقرب الى بالنوافل حتى أحبه فاذا أحببته كنت سمعه الذى يسمع به وبصره الذى يبصر به ويده التى يبطش بها ورجله التى يمشى بها وفى رواية فبى يسمع وبى يبصر وبى يبطش وبى يمشى فقد أخبر أنه يسمع بالحق ويبصر به وكانوا يقولون ان السكينة تنطق على لسان عمر رضى الله عنه
يقول شيخ الإسلام :
فمن غلبت على قلبه إرادة ما يحبه الله تعالى وبغض ما يبغضه الله إذا لم يدر فى الأمر المعين هل هو محبوب لله أو مكروه ورأى قلبه يحبه أو يكرهه كان هذا ترجيحًا ( عنده) ، والذين ينكرون الإلهام طريقًا على الإطلاق أخطأوا كما أخطأ الذين جعلوه طريقًا شرعيًا على الإطلاق .
وفى الحيث (( اتقوا فراسة المؤمن فإنه يرى بنور الله ثم قرأ قوله تعالى ( إن فى ذلك لآيات للمتوسمين ) )) وهو وصف لما يحصل لأهل الإيمان عند تجريد توحيد قلوبهم لله وإقبالهم عليه دون ما سواه بحيث يكونون مخلصين حنفاء ويكونون مع الله بلا خلق ومع الخلق بلا نفس ومع النفس بلا هوى قد فنيت منهم إرادة ما سوى الله تعالى ومحبته وخوفه .
وفى الحديث (( ولا يزال عبدى يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذى يسمع به ...) الحديث فالله تعالى فطر عباده على الحنيفية السمحاء وهى حب المعروف وبغض المنكر فإذا لم تستحيل الفطرة فالقلب مفطور على الحق فإذا كانت الفطرة منورة بنور القرآن وخفى عليها دلالة الأدلة السمعية الظاهرة ورأى قلبه يرجح أحد الأمرين كان ذلك من أقوى الأمارات عند مثله .
والإلهام فى القلب تارة يكون من جنس القول والعلم وتارة يكون من جنس العمل والحب والإرادة والطلب .
وليس المقصود هنا بيان أن هذا وحده دليل على الأحكام الشرعية لكن مثل هذا يكون ترجيحًا لطالب الحق إذا تكافأت عنده الأدلة السمعية الظاهرة فالترجيح هنا خير من التسوية بين المتناقضين فإن التسوية بينهما باطلة قطعًا .
(أنظر السلوك 335، 472-476 )
ولكن الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة..
((عن أنس أن ثابت بن قيس جاء يوم اليمامة، وقد تحنط، ولبس ثوبين أبيضين، فكفن فيهما، وقد انهزم القوم، فقال: اللهم إني أبرأ إليك مما جاء به هؤلاء، وأعتذر من صنيع هؤلاء، بئس ما عودتم أقرانكم ! خلوا بيننا وبينهم ساعة، فحمل، فقاتل حتى قتل، وكانت درعه قد سرقت، فرآه رجل في النوم، فقال له: إنها في قدر تحت إكاف، بمكان كذا وكذا، وأوصاء بوصايا، فنظروا فوجدوا الدرع كما قال. وأنفذوا وصاياه)) اهـ.
هذا خبر صحيح صححه الحاكم ووافقه الذهبي.
وفي رواية أخرى:
(( فلما استشهد، رآه رجل: فقال: إني لما قتلت، انتزع درعي رجل من المسلمين، وخبأه، فأكب عليه برمة، وجعل عليها رحلا. فائت الامير، فأخبره، وإياك أن تقول: هذا حلم، فتضيعه، وإذا أتيت المدينة، فقل لخليفة رسول الله، صلى الله عليه وسلم،: إن علي من الدين كذا وكذا، وغلامي فلان عتيق، وإياك أن تقول: هذا حلم، فتضيعه، فأتاه، فأخبره الخبر، فنفذ وصيته، فلا نعلم أحدا بعد ما مات أنفذت وصيته غير ثابت بن قيس رضي الله عنه)) اهـ.
فانظر كيف أن الصحابة وعلى رأسهم الصديق رضي الله عنهم، قد استمعوا إلى رؤيا منامية من واحد منهم فعملوا بها، فهاهي رؤيا صحابي وكشف الصديق ومن معه بأنها رؤيا حق، فانظر كم بابا فقهيا وحكما شرعيا تم تنفيذه بناء على هذه الرؤيا المنامية ولكم الكشف، فحكموا بأن الدرع التي وجدوها لثابت بن قيس فحكموا بملكه لها برؤيا، ثم حكموا بأنها ميراث لأهله، ثم أخذوا من ميراثه وتركته وقضوا ديونا بمقادير معينة ولأناس معينين لا إثبات عليها سوى هذه الرؤيا، ثم انظر كيف أعتق الغلام بناء على رؤيا ولم يعتبر من الإرث والتركة .. فانظر إلى كل هذه الأحكام الشرعية والأبواب الفقهية كيف نتجت بناء على رؤيا منامية وهي أخت الكشف عندكم وأشد منها في رأيكم ورأي قرضاويكم، فلم لم يعب القرضاوي على خليفة رسول الله وخالد بن الوليد وعمر بن الخطاب وجيل الصحابة الذين أنفذوا أحكاما شرعية على رؤيا منامية ؟؟؟
(( وتصح الوصية بالرؤيا الصادقة المقترنة بما يدل على صدقها إقرار كاتب أو إنشاء لقصة ثابت بن قيس التي [نفذها] الصديق رضي الله عنه.
وقد اختلف في الكشف هل هو طريق للأحكام فنفاه ابن حامد والقاضي وأكثر الفقهاء وقال القاضي أن في كلام أحمد في ذم المتكلمين على الوسواس والخطرات إشارة إلى هؤلاء.
وأثبته طائفة من الصوفية وبعض الفقهاء والمقصود أن التصرف بناء على ذلك جائز وإن لم يجز الرجوع إليه في الأحكام لأن عمدة التصرف على غلبة الظن بأي طريق كان بخلاف الأحكام فإن طرقها مضبوطة))اهـ.
ويقول ابن القيم في الروح - (1 / 15)
((فقد اتفق خالد [و] أبو بكر الصديق والصحابة معه على العمل بهذه الرؤيا وتنفيذ الوصية بها وانتزاع الدرع ممن هى في يده وهذا محض الفقه))اهـ.
ابن تيمية وابن القيم كل منهم صحح تنفيذ الوصايا بناء على الرؤية المنامية
يقول ابن تيمية في الفتاوى الكبرى ـ (5 / 127):
(( والتحقيق أن الله قادر أن يعلم الملائكة بما في نفس العبد كيف شاء كما هو قادر على أن يطلع بعض البشر على ما في الإنسان فإذا كان بعض البشر قد يجعل الله له من الكشف ما يعلم به أحيانا ما في قلب الإنسان فالملك الموكل بالعبد أولى بأن يعرفه الله ذلك ))اهـ.
ويقول في الفتاوى الكبرى - (6 / 621):
((إن أهل الإثبات لهم من العقل الصريح والكشف الصحيح ما يوافق ما جاءت به النصوص فهم مع موافقة الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة يعارضون بعقلهم عقل النفاة وبكشفهم كشف النفاة لكن عقلهم وكشفهم هو الصحيح))اهـ.
وقال صل الله عليه وسلم: لم يبق من النبوات إلا المبشرات قيل وما هي يا رسول الله؟ قال الرؤيا الصالحة يراها الرجل أو ترى له..
كما أن النبي صلى الله عليه وسلم حدثنا عن لمة الملك التي وعد بالخير وحث عليه وحذرنا من لمة الشيطان..
فالرؤى والإلهام بالخير يستأنس به ويستعان على فعل الخير الذي ثبت أصله بالأدلة الشرعية المرعية ولا يستفاد منه حكم شرعي لعدم انضباطه وعدم الوثاقة التامة به ولأنه ليس في الشرع ما يدل على الاحتجاج به
والقول بحجيته ضعيف
وقد نص سادتنا على أنه لا بد من عرض الخواطر الملهَمة على
الشرع الشريف وأنها لا تقبل إلا بشاهدي عدل من الكتاب والسنة
وفي الزبد لابن رسلان:
وزن بحكم الشرع كل خاطر *فإن يكن مأموره فبادر
قال ابن تيمية في درء تعارض العقل والنقل(5/ 348):
كل ذي مكاشفة إن لم يزنها بالكتاب والسنة وإلا دخل في الضلالات،
وأفضل أولياء الله من هذه الأمة أبو بكر وعمر رضي الله عنهماوأفضل من كان محدَّثا من هذه الأمة عمر للحديث
وللحديث الآخر :
[ إن الله ضرب الحق على لسان عمر وقلبه ] ومع هذا
فالصديق أفضل منه لأن الصديق إنما يأخذ من مشكاة الرسالة لا من مكاشفته ومخاطبته؛ وما جاء به الرسول معصوم لا يستقر فيه الخطأ، وأما ما يقع لأهل القلوب من جنس المخاطبةوالمشاهدة ففيه صواب وخطأ وإنما يفرق بين صوابه وخطائه بنور النبوة كما كان عمر يزن ما يَرد عليه بالرسالة فما وافق ذلك قبله وما خالفه رده.
قال بعض الشيوخ* ما معناه : قد ضمنتْ لنا العصمة فيما جاء به الكتاب والسنة ولم تضمن لنا العصمة في الكشوف.
وقال أبو سليمان الداراني :
إنه لتمر بقلبي النكتة من نكت القوم فلا أقبلها إلا بشاهدين
اثنين : الكتاب والسنة.
وقال أبو عمرو إسماعيل بن نجيد :
كل ذواق أو كل وَجْد لا يشهد له الكتاب والسنة فهو باطل.
وقال الجنيد بن محمد: علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة فمن لم يقرأ القرآن وبكتب الحديث لا يصلح له أن يتكلم في علمنا.
وقال سهل (أي التستري) أيضا :
يا معشر المريدين لا تفارقوا السواد**
على البياض فما فارق أحد السواد على البياض إلا تزندق.
وهذا وأمثاله كثير في كلام الشيوخ العارفين يعلمون
أنه لا تحصل لهم حقيقة التوحيد والمعرفة واليقين إلا بمتابعة
المرسلين .انتهى كلام ابن تيمية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق