الروح فى عالم البرزخ
ظن البعض أن الموت هو نهاية الحياة فى حين أن الحقيقة التى ذكرها كتاب الله وبينها سيدنا رسول الله أن الموت يكون للجسم أما الروح فلا تموت ولا تفوت وإنما تنتقل إلى دار تسمى(دار البرزخ)يقول الله تعالى فيها ففى الآية ( 100المؤمنون){وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } كلمة (البرزخ) أى الحاجز بين شيئين وهو هنا والحاجز بين الدنيا والآخرة يسمى البرزخ أو يسمى القبر لأنه يستر الإنسان لكن الإنسان بمجرد أن تخرج روحه من جسده يخرج إلى عالم فسيح عالم الإطلاق فالروح عند الموت لها شأن آخر فى عالم البرزخ فإن كانت من الشهداء فالله يقول في الشهداء {بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ }آل عمران169 وإن كانت من أهل درجة من درجات اليمين من المؤمنين فهي في عليين: [إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ{18} وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ{19} كِتَابٌ مَّرْقُومٌ{20} يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ{21}] [المطففين] فهى على كل حال في حضرات إلهية فيها صفاء وفيها نقاء وهناء لا يستطيع الإنسان أن يصفه أو حتى يشير إليه لأن العقول لا تتحمله في هذه الحياة الدنيا وهذا سر قول النبى : {لَوْ تَعْلَمُون مَا أَعْلَمُ، لَضَحِكْتُمْ قَليلا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيراً ولخرجتم إلى الصعداء تجئرون }عن أنسٍ صحيح البخارى ومسلم
فالروح لاتموت ولا تفوت ولذا ورد أن الإمام الغزالى عندما حانت وفاته جلس تلاميذه حوله يبكون فقال لهم:
قل لإخوانٍ يـرونى ميتا
ليس والله بالميت أنــا
أنا عصفور وهذا قفصى
طرت منه إلى دار الهنـا
فوصف الجسم فى تقييده للروح كالقفص الذى يحبس فيه الطائر فالجسم يحبس الروح عن الحركة فإذا خرجت الروح من الجسم سرحت فى عالم الإطلاق ما شاءت لأنها تكون مطلقة وغير مقيدة.
لاترعكم هجمة الـموت
فما هو إلا نقلة من ها هنا
إنتقال من دار إلى دار ليس أكثر ويبين هذه الحقيقة فقد ورد فى الأثر أن نسبة البرزخ إلى دار الدنيا كنسبة الدنيا إلى بطن الأم، فالإنسان عندما يكون جنيناً فى بطن أمه يظن أنه الحياة التى فيها كل المنى، فهى حياة واسعة وفيها كل ما يبتغيه وعندما يهبط من بطن أمه يبكى على مفارقته هذه الحياة التى كان فيها وبعد أن يعقل يجد الدنيا واسعةً جداً ليس هناك نسبة بينها وبين بطن أمه وهذه مثل نسبة البرزخ إلى عالم الدنيا ولتقريب الحقيقة أقول أن عالم البرزخ فيه كل السابقين أجمعين حاضرين فكم يكون النسبة بينه وبين عالم الدنيا؟ ففيه من أول أدم وكلهم أحياء عند ربهم يرزقون وأياك أن تخص الحياة ببعض دون البعض لأن الله ذكر أن حياة البرزخ لكل الخلائق لأن البرزخ أما يكون روضة من رياض الجنة وأما حفرة من حفر النار أى أن الإنسان فيه أما أن ينعم وأما أن يعذب، ولكى ينعم أو يعذب لابد أن يكون فيه حسٌ وأحساس يدرك النعيم ويشعر بالألم والعذاب وضرب الله مثلا للكافرين فقال تعالى عن فرعون وقومه:{مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا} فأين ذهبوا؟ {فَأُدْخِلُوا نَاراً} (25نوح) بعد الغرق مباشرة أدخلوا النار وحتى لا يلتبس الأمر على البعض ويظن أن النار نار الآخرة بين الله الحقيقة فقال فى سورة غافر:{النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ }فالنار التى يعرضون عليها غدوا وعشياً هى نار البرزخ لأن الآخرة ليس فيها غدو ولا عشى ولا يوم ولا شهر ثم يبين بعد ذلك أنهم يذوقون أشد العذاب فى الآخرة لنعلم يقيناً أن هذه النار هى نار الحياة البرزخية التى يعذب فيها قوم فرعون والنبى بيّن هذه الحقيقة عندما دفن قتلى الكفار فى غزوة بدر وكانوا حوالى سبعين، فأتى فقامَ عليهمْ ونادى وقال: { يا أبا جَهْلِ بنَ هِشَامٍ، يا أُمَيَّةُ بنَ خَلَفٍ، يا عُتْبَةَ يا شَيْبَةَ بنَ رَبِيعَةَ، أَلَيْسَ قَدْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقَّاً، فإِنِّي وَجَدْتُ مَا وَعَدَ رَبِّي حَقَّاً؟ قالَ: فَسَمِعَ عُمَرُ قَوْلَ النَّبِيِّ، فقالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ يَسْمَعُونَ قَوْلَكَ، أَوْ يُجِيبُونَ وقد جَيَّفْوا؟ فقالَ: والَّذي نَفْسي بِيَدِهِ، ما أَنْتُم بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ، ولكِنَّهم لا يَقْدِرُونَ أَنْ يُجِيبُوا} عن أنسِ بنِ مالكٍ، صحيح ابن حبان، وفى البخارى ومسلم
فبين أن الإنسان الذى يغادر هذه الدنيا يسمع ويحس ويشعر ولكن الكافر يكون فى سجن إنفرادي لا يستطيع أن يتحرك أو يجيب، أما المؤمن فيكون فى حياة مطلقة يذهب إلى الجنة كيف يشاء، بل ويذهب إلى الأماكن التى يحبها فى الدنيا ويزور الأحباء الذين كان يحبهم ويودهم فى الدنيا له حرية مطلقة فى الحركة لأنه كما قال الله فى شأنه فى [34 الزمر]:{لَهُم مَّا يَشَاءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ } فكل الذى يشاءه ويختاره يعطيه له الله فى هذه الحياة البرزخية ومن فضل الله علينا معشر المؤمنين في البرزخ أن المؤمن لا يخرج منه إلا وقد طاب أمره وصلح شأنه وأصبح صالحاً لدخول الجنة إلا أقل القليل وهم من ماتوا مسرفين على أنفسهم فى الكبائر ولم يتوبوا قبل الموت لكن أى مسلم لم يرتكب الكبائر فإن الله يمحصه ويغفر له ويعفو عنه فى الحياة البرزخية حتى يخرج منها صالحا لدخول جنة النعيم، فهذه الحياة البرزخية أكرم الله بها الأمة المحمدية وجعلها إكراما لنا جماعة المسلمين وهو سر قول رسول الله :{ أُمَّتِي أُمَّةٌ مَرْحُومَةٌ مُتَابٌ عَلَيْهَا تَدْخُلُ قُبُورَهَا بِذُنُوبِهَا وتَخْرُجُ مِنْ قُبُورِهَا لاذُنُوبَ عَلَيْهَا يُمَحَّصُ عَنْهَا باسْتِغْفَارِالمُؤْمِنِين َ لَها}عن أنس السيوطى فى شرح الصدور والطبرانى فى الأوسط
يتبع إن شاء الله