إخواني جماعة المؤمنين.. يا من أغناكم الله بهذا الدين ووضع لكم وبين أيديكم كنوز الغنى التي بها لا تحتاجون للأولين ولا للآخرين فما من شئ يصيبكم في أنفسكم أو في مجتمعكم أو في بيوتكم أو في أزواجكم أو في أولادكم أو في أرزاقكم أو شئ من أحوالكم إلا وتجدون الشفاء التام فيه جاهزاً إما في كتاب الله وإما في سنة سيدنا ومولانا رسول الله وإني لأعجب كيف يتيه عبد عن علاج نفسه؟ أو كيف يتعب في علاج زوجه؟ أو كيف ييأس من إصلاح ولده؟ أو كيف يبحث عن سبيل لإصلاح مجتمعه؟ وبين يديه كتاب الله يقلبه وبين يديه سنة سيدنا ومولانا رسول الله يستوضحها وهو القائل{أَيُّها النَّاسُ إنِّي تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا: كِتَابَ الله وسنتي}[1]إذن من ضل ومن ذل ومن هوى ومن بعد ومن تعب فإنما هو لأنه لم يتمسك بما أمره به ونحن في العام الهجري الجديد هل من جديد يصلح حالنا؟ أو هل من جديد يغير شأننا؟ هل من جديد يحول أحوالنا إلى أحوال ترضي ربنا
؟تعالوا جميعاً نفتح كنز الهجرة ونأخذ منه العبرة فإن هجرة سيدنا ومولانا رسول الله فيها العبرة لمن اعتبر وفيها الحل لكل مشكلات البشر فمثلاً وهو مثالٌ واحدٌ نسوقه كي لا نشق عليكم ما نعاني منه الآن من مشكلات اقتصادية ونفسية واجتمعاية استشرت حتى وصلت إلينا جميعاً فلم ينجو منها أحد لأننا نحتاج إلى بعضنا في أمور الحياة فمنا من يشكو من ماله ومنا من يشكو من رفيق في العمل ومنا من يشكو من التجار ومنا من يشكو من الزراع ومنا من يشكو من المرءوسين ومنا من يشكو من الحكام والمديرين ومنا من يشكو من أحوال المجتمع بالمرة نشكو من ماذا؟ أصبحنا وكل واحد منا مشغولٌ بنفسه لا يفعل إلا عن نفسه ولا يريد أن يجلب الخير إلا لنفسه ولا يريد أن يدفع المكروه إلا عن نفسه ونسى جاره ونسى أخاه بل ربما أحياناً ينسى أباه وأمه حتى يضطرهما أن يرفعا ضده شكاوي في المحاكم لأنه لا يهتم بأمرهما ولا يحس بمشاعرهما ولا يشاركهما في مشاكلهما فالتاجر لايهتم إلا بالكسب السريع سواء احتكر على المسلمين أو رفع السعر وغالى فيه على المؤمنين أو غشهم في بيعه أو في وزنه أو سلعته وصنفها ونوعها أو في الجودة لا يهتم بذلك لأن همه كله هو المكسب السريع ولا شأن له بذلك والموظف يريد أن يتسلق على أكتاف رفاقه وإخوانه تارة بالكيد لهم وأخرى بالتجسس على أحوالهم وثانية بالقيل والقال لرؤسائه ومديريه ليغير قلوبهم على إخوانهم ليأخذ مكانهم الذي جُعل لهم ولا يهتم إلا بنفسه وهكذا هل لهذا الشأن من علاج فيما نحن فيه من أحكام وقوانين؟ لا والله فلو سنت الدولة ألف قانون وقانون فإنهم يتعلمون كيف يتهربون منها؟ وكيف يجدون المخرج فيها؟ لأن الغالب عليهم هو حب الذات والأثرة والأنانية التي أمتلأت بها النفوس وأصبحت تعيش وكأنها في يوم القيامة والكل يقول نفسي نفسي لا أريد غيرها ما العلاج؟لا يوجد علاج إلا إذا نظرنا إلى كنز الهجرة ونظرنا إلى ما فيه من علاج هؤلاء القوم تركوا دورهم وأموالهم وأهليهم وزراعاتهم وتجاراتهم وهاجروا ولا يجدون حتى الكفاف بل لا يجد الواحد منهم ما يستر عورته أو ما يلبسه في قدمه وذهبوا إلى الأنصار بالمدينة فأفاء الله عليهم الخير ووجدوا عندهم الحدائق الغناء وعندهم التجارة وعندهم الزراعة ماذا فعلوا؟ وماذا صنعوا؟ إن هذا ما يخبرنا عنه الله وهو العلاج الأوحد لمجتمعنا يا أحباب الله ورسوله{يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}هذا هو العلاج أننا نصلح القلوب فنطهرها من الذنوب ومن الأثرة ومن الأنانية ومن حب الذات ومن الغل والحقد ومن الحرص على الدنيا الفانية ونملأها إيماناً بالله ونملأها ثقة في وعد الله حتى تكون بما في يد الله أوثق منها بما في يد أنفسها ونملأها يقيناً أن ما قدر لها يكون وأن الرزق لا يسوقه حرص الحريص ولا يناله طالب إلا بما كتب له الواحد ولن ينال بسعيه وحرصه وكده وطلبه ما يناله غيره إلا ما قدره وكتبه له ربه نملأها يقيناً بأن الآخرة خير وأبقى فيؤثرون الآخرة على الحياة الدنيا ويقبلوا على أعمال الآخرة وأحوال الآخرة وأن يحب لأخيه ما يحب لنفسه ويفرح إذا رأى الخير عند إخوانه ويسر إذا رأى السرور والطرب عند جيرانه ويحزن لحزن إخوانه ويتألم لآلام جيرانه قال النبى{لَيْسَ بِالْمُؤْمِنِ الّذي يَبيتُ شَبْعاناً وَجَارُهُ جائِعٌ إِلى جَنْبِهِ وهو لا يشعر به}[2] أي لا يؤمن إيماناً صحيحاً عند الله ينال به الدرجة العالية من الله إلا إذا كان يحس بإخوانه ويشعر بآلام جيرانه ويشارك أقاربه وخلانه هذا هو الذي صنعه لكم ومعكم الله على يد سيدنا ومولانا رسول الله فأصبح الرجل منهم يسارع فيما يرضي الله حتى كان الرجل المهاجر عندما ينزل المدينة المنورة يحضر أهلها ويتنافسون ويتصارعون وكل يريد أن يأخذه إلى بيته ليحظى بالفضل والرضوان من الله ومن شدة تهافتهم وصراعهم كان لا يذهب الرجل المهاجر إلى أحدهم إلا إذا أجروا القرعة والمساهمة فيما بينهم فمن وقعت عليه القرعة فهو الذي يفوز بهذا الغنم الأكبر وهذا الفوز الأعظم وهذا الأخ الذي يأخذه ويواسيه ويطعمه ويجالسه ويقيمه في بيته لأنه يعلم أن هذا هو الفضل الأعظم عند الله وهذا عكس ما نراه الآن - فيرى بعضنا أنه إذا أخذ شخصاً ضيفاً إلى بيته يراه غرماً يراه سيغرمه كوب شاي وسيغرمه بضع أرغفة وسيغرمه مبلغاً من النقود يراها غرامة وهم كانوا يرونها غنيمة لأنهم يرجون الفضل من الله حتى أنه بلغ الأمر من أحدهم - لأنهم يتعاملون مع ربهم - أن أخذ أخاه وكان هذا الرجل المهاجر هو عبد الرحمن بن عوف والرجل الأنصاري هو سعد بن الربيع فأحضر ماله وقسمه نصفين وقال له: اختر أيهما شئت وقسم بيته قسمين، وقال له: اختر أيهما شئت ثم قال له: هل تزوجت؟ قال: لا قال: إن لي زوجتين فانظر إليهما فأيهما أعجبتك أطلقها فإذا انقضت عدتها تزوجتها حلالاً هم تربوا على مائدة القرآن وكانوا كما وصفهم الحنان المنان {لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً}هذا بالإيثار وهذا بالعفة فزهدوا في الدنيا فسخرت لهم الدنيا وكانت لهم الدنيا فقال له عبد الرحمن:بارك الله لك في زوجك، وبارك الله لك في بيتك وبارك الله لك في مالك ولكن دلني على السوق بماذا كافأه الله على هذه العفّة؟ كان كما قال: لو تاجرت في تراب لحوله الله إلى ذهب وعندما مات وقد هاجر لا يملك قليلاً ولا كثيراً ووزعوا الذهب الذي خلفه على زوجاته من كثرة هذا الذهب أخذوا يضربونه بالفئوس ليوزعوه على زوجاته وبنيه لماذا؟ لأنه فتح بالعفة كنز فضل الله وكنز أخلاق الله وكنز خير الله له ولزوجه وولده فهؤلاء تعاملوا بالإيثار وهؤلاء تعاملوا بالعفة والكل تربى على مائدة القرآن وتأسى بالنبي العدنان فلم يكن لهم في مجتمعهم مشكلة ولم يكن لهم في مجتمعهم معضلة ولم ينتابهم في جميع أمورهم أي شئ يعكر صفوهم أو يشغلهم عن ربهم أو عن عبادة الله أو عن طاعة سيدنا ومولانا رسول الله لأنهم شغلوا أنفسهم بكتاب الله وبهدى سيدنا ومولانا رسول الله فعلاج أمراضنا في هؤلاء الثلاث: أولاً الحب{يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ}إذا أحببنا بعضنا ويكفينا في هذا حديث واحد لوطبقناه على أنفسنا وفي مجتمعنا ما وجدت مشكلة بيننا وهو قوله{لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأخِيهِ ما يُحِبُّ لِنَفْسِهِ }[3] فكما لا أحب أن يوشي أخي عليّ وشاية فلا أوشي على أخي وكما لا أحب أن يستأثر أخي عليّ فلا استأثر على أخي وكما لا أحب أن يسبّني أخي فلا أسبّ أخي، وكما لا أحب أن تتطاول علي زوجة جاري فلا أسمح لزوجتي أن تتطاول على جاري وكما لا أحب أن يؤذيني ابن أخي أو جاري أو قريبي فلا أسمح لابني أن يؤذي أخي أو جاري أو قريبي، وكل شئ لا أرضاه لنفسي لا أرضاه لغيري إذا فعلنا ذلك لم يكن هناك مشكلة ولا يصير بيننا مشكلة{وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا}
العلاج الثاني: إذا وثقت أن المعطي هو الله ويعطي بحكمة لا يعلمها إلا الله فلماذا تحزن إذا لم يعطي لك ولداً كفلان ولماذا أغتم إذا حلى زوجة هذا ولم يحل زوجتي؟ ولماذا أحمل الهم فوق رأسي إذا جاء لزميلي في العمل ترقية ولم أنالها، وقيل شعراً لأحدهم[4]:
أَلا قُلْ لِمَنْ كَانَ لِي حَاسِدًا أَتَدْرِي عَلَى مَنْ أَسَأْت الأَدَبْ
أَسَأْت عَلَى اللَّهِ فِي حُكْمِهِ لأَنَّك لَمْ تَرْضَ مَا قَدْ وَهَبْ
فَجَازَاك رَبِّي بِأَنْ زَادَنِي وَسَدَّ عَلَيْك وُجُوهَ الطَّلَبْ
الحسود يعترض على المعطي لأنه هو الذي قسم الأرزاق وهو الذي قسم الأخلاق وهو الذي قسم العطاء وهو الذي أيضاً قسم البلايا والعناء ولو نظرت على التحقيق لوجدت أن الكل سواء فكما أن هذا عنده عطاء فلابد أنه عنده جانب من البلاء وإن كنت لا أراه ولا أشعر به ولكن اعلم يقيناً أن الله{وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ}فإذا رأيت على أخي نعمة أو رأيته في منة فيجب عليّ أن أفرح وأن أشكر الله وأن أحمد الله وأن أدعو الله أن يزيده نعماً على نعمه وخيراً وبراً على خيره وبره وفضلاً على فضله ولا تطلب من الله أن يمحق هذا الفضل أو أن يذهب هذا البر لأن هذا ليس من خصال المؤمنين وإنما من خصال الجاحدين والمنافقين والعياذ بالله فالمؤمن لا يحمل في قلبه ضغينة لأحد ولا حقداً على احد ولا حسداً لأحد بل يتمنى الخير والبر لجميع عباد الله حتى أنه يتمنى الهداية للكافرين ويتمنى العناية للجاحدين ويتمنى أن يوفق الله المشركين ليهتدوا لهذا الدين ويحب الخير حتى للكافرين يحب لهم أن يؤمنوا بالله وأن يهتدوا بهدى الله فما بالك بإخوانه المؤمنين إنه يحب لهم الخير في الدنيا والسعادة في يوم الدين{وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}يفضل إخوانه على نفسه لأنه يعلم أن الدنيا فانية وأن النعم الحقيقية هي النعم الباقية في جوار الله{وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً}النعم الفانية تحتمل البلاء وتحتمل العطاء فهي فتنة{إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} حتى المال والولد فتنة{لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ} فإذا وفق لشكر الله على نعمة الولد فقد فاز وجاز وإذا وفق لشكر الله على نعمة الزوجة فقد فاز وجاز ولكنه إذا نسى الله ولم يشكره على نعمه وعطاياه فقد جحد ورسب في الاختبار الذي أجراه له الله{تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ}لماذا {لِيَبْلُوَكُمْ}[أي يختبركم] {أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً}لكن النعم الخالصة التي ليس فيها احتمال وإنما هي محض عطاء أن يوفقك للعبادات، وأن يفتح لك باب القبول على الطاعات والقربات وأن يلهم لسانك ذكره وشكره وحُسن عبادته وأن يحبب إليك تلاوة القرآن وأن يحبب إليك متابعة النبي العدنان، وأن يحبب إليك فعل الخير في كل وقت وآن، وأن يذكرك بالدار الآخرة لتستعد لها، وأن يذكرك بالموت لتتأهب له هذه هي النعم الحقيقية التي يفرح بها المؤمنون وليس فيها ابتلاء وليس فيها فتن وليس فيها اختبار وإنما هي كما ورد فى الأثر{إذا أكرم الله عبدا ألهمه ذكره وألزمه بابه وآنسه به يصرف إليه بالبر والفوائد، ويمده من عند نفسه بالزوائد ويصرف عنه أشغال الدنيا والبلايا فيصير من خالص عباد الله وأحبابه فطوبى له حيا وميتا لو علم المغترون بالدنيا ما فاتهم من حظ المقربين وتلذذ الذاكرين، وسرور المحبين لماتوا كمدا}[5]إذا أحب الله عبداً يلهمه بذكره وشكره وحسن عبادته فإذا استطعنا أن نحيي في نفوسنا هذه المعاني الحب لعباد الله وأن نحمي نفوسنا من البغضاء والشحناء والحقد والحسد لجميع عباد الله وأن نملأ قلوبنا بالرغبة في العمل الدائم الذي ينفعنا بعد هذه الحياة من الإيثار ومن المعونة ومن المساعدة ومن المواصلة ومن البر ومن كظم الغيظ ومن العفو عن الناس ومن الإحسان إلى المظلومين ومن مساعدة المنكوبين ومن التفريج عن المكروبين إذا أحببنا هذه الأعمال وقمنا بها فلن يكون في مجتمعنا مشكلة أبداً يا إخواني جماعة المؤمنين ورد عن أصحاب نبيكم الكريم أن رجلاً ذبح شاة وتصدق برأسها على رجل من الفقراء فجلس مع زوجته فنظر في أمر نفسه وأمر إخوانه ثم قال: يا أم فلان إن أخي فلان أحوج إليها مني وذهب وأعطاها له فجلس الثاني مع زوجته ونظر في أمر إخوانه المؤمنين وقال يا أم فلان إن أخي فلان أحوج إلى هذه الرأس مني وذهب وأعطاها إليه فطافت الرأس على سبعة دور ثم رجعت إلى الأول مرة ثانية لتثبت سلامة صدورهم ورقة شعورهم وإحساسهم واستحقاقهم للوسام الذي نسبهم به ربهم{وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}قال النبى{ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء}[6]وقال{ المُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِنْ لِسانِهِ وَيَدهِ، والمهاجِرُ مَن هَجرَ ما نَهى اللّهُ عنه }[7]اعلموا علم اليقين أن آخر هذه الأمة لن يسعد إلا بما سعد به أولها وأولها لم ينالوا السعادة بالعمارات الشاهقة والأرصدة الزائدة والمصانع الشامخة وإنما نالوا السعادة بما في نفوسهم من حب وشوق وزهد وورع ونقى وغنى بالله وعفاف عما حرمه الله ولن ينصلح حال مجتمعنا إلا إذا عدنا لهذه الأخلاق النورانية ولهذه الخصال الإلهية التي أوصانا بها الله في كتابه وبينها لنا الرسول الكريم في هديه وفي سنته فإن المجتمع الذي أسسوه أسس على هذه الأخلاق فكان الرجل منهم لو عرضت عليه كنوز الدنيا لأتلفته عن خلق تخلق به لله وهداه إلى التمسك به سيدنا ومولانا رسول الله انظروا إلى هؤلاء القوم وقد خرجوا من المدينة حفاة عراة لا يملكون قليلاً ولا كثيراً وفتح الله لهم كنوز كسرى وكنوز قيصر وكانت شيئاً يدهش العيون لم تفكر فيه عقولهم ولم يرواد خيالهم مما فيه من مجوهرات ومما فيه من ذهب وفضة وما فيه من عسجد واستبرق وما فيه من أصناف المباهج والرياش التي لم تخطر ببال واحد منهم قط في حياته كلها، ولكنهم عندما فتحت لهم الكنوز لم تشغل بالهم وما سلبت عقولهم ولم تغير طباعهم وأخلاقهم وهذا هو المهم فقد قال لهم القائد من وجد شيئاً فليؤده لنا فكانوا يحضرون كل شئ حتى أن الرجل الذي وجد إبرة وليست بذات شأن كان يأتي ويسلمها إليه لا يدس شيئاً في ثيابه ولا يخفي شيئاً في متاعه لأنه يراقب الله ويحرص على هذا الخلق الكريم الذي خلقه به الله والذي وصاه به سيدنا ومولانا رسول الله وهو الأمانة في كل شئ فحملت الكنوز على جمال كان أولها في المدينة المنورة وآخرها في بلاد فارس كما يقول الرواة فى الأثر وعندما وضعت أمام عمر بن الخطاب لم تطرف عينه ولم تشغل باله ولم يجد صراعاً لاكتسابها أو للحصول عليها وإنما جلسوا متعجبين ولسان حالهم يقول كما قال القائد عندما رآها {كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ}علموا أن هؤلاء ضاعت منهم النعم لأنهم لم يشكروا واهب النعم فرجعوا إلى الله شاكرين حتى لا يشغلهم بالنعم عنه لأنهم يريدون أن يكونوا مع المنعم في جميع أحوالهم وفي جميع أوقاتهم فقال عمر بن الخطاب عندما رأى هذه الكنوز الفارهة(إن قوماً أدوا هذا لأمناء)فقال علي بن أبي طالب(عففت فعفت رعيتك يا أمير المؤمنين)هذا الذي نحتاجه نحتاج إلى بناء الأمانة في أولادنا وفي أنفسنا وفي أزواجنا نحتاج إلى بناء الإخلاص في قلوبنا وفي قلوب عمالنا ليكون خالصاً لله لأنهم لا يرجون سواه ولا يراقبون إلا إياه نحتاج لبناء الصدق في قلوب أهل مجتمعنا حتى نطمئن في بيعنا وفي شرائنا لأننا صرنا لا نثق في بعضنا حتى ضاعت الثقة في الأمين لأن الثقة أصبحت مفقودة بانتشار الكذب بين جماعة المسلمين. حتى أنه لو جاء رجل منهم وقد قرأ عن دين الله ويريد أن يرى العباد الذين يتبعون هذا الدين فيرى أحوال المسلمين هل يعتقد أن هؤلاء اتباع سيد الأولين والآخرين؟هل يعرفهم بأوصافهم؟إنه ينظر إلى وصفهم في القرآن أنهم لا يكذبون ويرى أمام عينيه كل تعاملاتهم مبنية على الكذب يقرأ أنهم لا يخونون ويرى أن كل همهم الخيانة وليست للأمانة عندهم صيانة يقرأ عن أمانتهم ويقرأ عن شهامتهم ويقرأ عن كرم ضيافتهم وينظر إلى الموجودين فيرى مسلمين بغير إسلام يرى مسلمين بالاسم وبشهادة الميلاد وبالبطاقات لكن أخلاقهم أخلاق الكافرين أو أخلاقهم أخلاق المنافقين أو أخلاقهم أخلاق غير المسلمين فأخوك فى الدين هو كما قال سيد الأولين والاخرين{من عامل الناس فلم يظلمهم ، وحدثهم فلم يكذبهم ووعدهم فلم يخلفهم فهو ممن كملت مروءته، وظهرت عدالته، ووجبت أخوته، وحرمت غيبته}[8] وكما ورد فى الأثر الشهير : الدين المعاملة ... الدين المعاملة ... الدين المعاملة
[1] رواه ألإمام مالك في الموطأ عن أنس، ورواه الترمذي والطبراني في الفتح الكبير عن زيد بن أرقم.
[2] رواه الطبراني والبزار عن أنس بن مالك.
[3] أخرجه البخاري في كتاب الإيمان وأبو يعلى في مسنده وأحمد في مسنده والدارمي في سننه عن أنس.
[4] : غذاء الألباب شرح منظومة الأداب لمحمد بن أحمد السفارينى
[5] الزهد الكبير للبيهقي رواية عن ذى النون
[6] رواه أحمد وأبو داود والترمذي والحاكم عن ابن عمر.
[7] رواه ابن حبان والطبراني في الكبير والحاكم عن فضالة ابن عبيد رضي الله عنه.
[8] مسند الشهاب عن على بن أبى طالب كرم الله وجهه.
الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ فوزي محمد أبوزيد
؟تعالوا جميعاً نفتح كنز الهجرة ونأخذ منه العبرة فإن هجرة سيدنا ومولانا رسول الله فيها العبرة لمن اعتبر وفيها الحل لكل مشكلات البشر فمثلاً وهو مثالٌ واحدٌ نسوقه كي لا نشق عليكم ما نعاني منه الآن من مشكلات اقتصادية ونفسية واجتمعاية استشرت حتى وصلت إلينا جميعاً فلم ينجو منها أحد لأننا نحتاج إلى بعضنا في أمور الحياة فمنا من يشكو من ماله ومنا من يشكو من رفيق في العمل ومنا من يشكو من التجار ومنا من يشكو من الزراع ومنا من يشكو من المرءوسين ومنا من يشكو من الحكام والمديرين ومنا من يشكو من أحوال المجتمع بالمرة نشكو من ماذا؟ أصبحنا وكل واحد منا مشغولٌ بنفسه لا يفعل إلا عن نفسه ولا يريد أن يجلب الخير إلا لنفسه ولا يريد أن يدفع المكروه إلا عن نفسه ونسى جاره ونسى أخاه بل ربما أحياناً ينسى أباه وأمه حتى يضطرهما أن يرفعا ضده شكاوي في المحاكم لأنه لا يهتم بأمرهما ولا يحس بمشاعرهما ولا يشاركهما في مشاكلهما فالتاجر لايهتم إلا بالكسب السريع سواء احتكر على المسلمين أو رفع السعر وغالى فيه على المؤمنين أو غشهم في بيعه أو في وزنه أو سلعته وصنفها ونوعها أو في الجودة لا يهتم بذلك لأن همه كله هو المكسب السريع ولا شأن له بذلك والموظف يريد أن يتسلق على أكتاف رفاقه وإخوانه تارة بالكيد لهم وأخرى بالتجسس على أحوالهم وثانية بالقيل والقال لرؤسائه ومديريه ليغير قلوبهم على إخوانهم ليأخذ مكانهم الذي جُعل لهم ولا يهتم إلا بنفسه وهكذا هل لهذا الشأن من علاج فيما نحن فيه من أحكام وقوانين؟ لا والله فلو سنت الدولة ألف قانون وقانون فإنهم يتعلمون كيف يتهربون منها؟ وكيف يجدون المخرج فيها؟ لأن الغالب عليهم هو حب الذات والأثرة والأنانية التي أمتلأت بها النفوس وأصبحت تعيش وكأنها في يوم القيامة والكل يقول نفسي نفسي لا أريد غيرها ما العلاج؟لا يوجد علاج إلا إذا نظرنا إلى كنز الهجرة ونظرنا إلى ما فيه من علاج هؤلاء القوم تركوا دورهم وأموالهم وأهليهم وزراعاتهم وتجاراتهم وهاجروا ولا يجدون حتى الكفاف بل لا يجد الواحد منهم ما يستر عورته أو ما يلبسه في قدمه وذهبوا إلى الأنصار بالمدينة فأفاء الله عليهم الخير ووجدوا عندهم الحدائق الغناء وعندهم التجارة وعندهم الزراعة ماذا فعلوا؟ وماذا صنعوا؟ إن هذا ما يخبرنا عنه الله وهو العلاج الأوحد لمجتمعنا يا أحباب الله ورسوله{يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}هذا هو العلاج أننا نصلح القلوب فنطهرها من الذنوب ومن الأثرة ومن الأنانية ومن حب الذات ومن الغل والحقد ومن الحرص على الدنيا الفانية ونملأها إيماناً بالله ونملأها ثقة في وعد الله حتى تكون بما في يد الله أوثق منها بما في يد أنفسها ونملأها يقيناً أن ما قدر لها يكون وأن الرزق لا يسوقه حرص الحريص ولا يناله طالب إلا بما كتب له الواحد ولن ينال بسعيه وحرصه وكده وطلبه ما يناله غيره إلا ما قدره وكتبه له ربه نملأها يقيناً بأن الآخرة خير وأبقى فيؤثرون الآخرة على الحياة الدنيا ويقبلوا على أعمال الآخرة وأحوال الآخرة وأن يحب لأخيه ما يحب لنفسه ويفرح إذا رأى الخير عند إخوانه ويسر إذا رأى السرور والطرب عند جيرانه ويحزن لحزن إخوانه ويتألم لآلام جيرانه قال النبى{لَيْسَ بِالْمُؤْمِنِ الّذي يَبيتُ شَبْعاناً وَجَارُهُ جائِعٌ إِلى جَنْبِهِ وهو لا يشعر به}[2] أي لا يؤمن إيماناً صحيحاً عند الله ينال به الدرجة العالية من الله إلا إذا كان يحس بإخوانه ويشعر بآلام جيرانه ويشارك أقاربه وخلانه هذا هو الذي صنعه لكم ومعكم الله على يد سيدنا ومولانا رسول الله فأصبح الرجل منهم يسارع فيما يرضي الله حتى كان الرجل المهاجر عندما ينزل المدينة المنورة يحضر أهلها ويتنافسون ويتصارعون وكل يريد أن يأخذه إلى بيته ليحظى بالفضل والرضوان من الله ومن شدة تهافتهم وصراعهم كان لا يذهب الرجل المهاجر إلى أحدهم إلا إذا أجروا القرعة والمساهمة فيما بينهم فمن وقعت عليه القرعة فهو الذي يفوز بهذا الغنم الأكبر وهذا الفوز الأعظم وهذا الأخ الذي يأخذه ويواسيه ويطعمه ويجالسه ويقيمه في بيته لأنه يعلم أن هذا هو الفضل الأعظم عند الله وهذا عكس ما نراه الآن - فيرى بعضنا أنه إذا أخذ شخصاً ضيفاً إلى بيته يراه غرماً يراه سيغرمه كوب شاي وسيغرمه بضع أرغفة وسيغرمه مبلغاً من النقود يراها غرامة وهم كانوا يرونها غنيمة لأنهم يرجون الفضل من الله حتى أنه بلغ الأمر من أحدهم - لأنهم يتعاملون مع ربهم - أن أخذ أخاه وكان هذا الرجل المهاجر هو عبد الرحمن بن عوف والرجل الأنصاري هو سعد بن الربيع فأحضر ماله وقسمه نصفين وقال له: اختر أيهما شئت وقسم بيته قسمين، وقال له: اختر أيهما شئت ثم قال له: هل تزوجت؟ قال: لا قال: إن لي زوجتين فانظر إليهما فأيهما أعجبتك أطلقها فإذا انقضت عدتها تزوجتها حلالاً هم تربوا على مائدة القرآن وكانوا كما وصفهم الحنان المنان {لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً}هذا بالإيثار وهذا بالعفة فزهدوا في الدنيا فسخرت لهم الدنيا وكانت لهم الدنيا فقال له عبد الرحمن:بارك الله لك في زوجك، وبارك الله لك في بيتك وبارك الله لك في مالك ولكن دلني على السوق بماذا كافأه الله على هذه العفّة؟ كان كما قال: لو تاجرت في تراب لحوله الله إلى ذهب وعندما مات وقد هاجر لا يملك قليلاً ولا كثيراً ووزعوا الذهب الذي خلفه على زوجاته من كثرة هذا الذهب أخذوا يضربونه بالفئوس ليوزعوه على زوجاته وبنيه لماذا؟ لأنه فتح بالعفة كنز فضل الله وكنز أخلاق الله وكنز خير الله له ولزوجه وولده فهؤلاء تعاملوا بالإيثار وهؤلاء تعاملوا بالعفة والكل تربى على مائدة القرآن وتأسى بالنبي العدنان فلم يكن لهم في مجتمعهم مشكلة ولم يكن لهم في مجتمعهم معضلة ولم ينتابهم في جميع أمورهم أي شئ يعكر صفوهم أو يشغلهم عن ربهم أو عن عبادة الله أو عن طاعة سيدنا ومولانا رسول الله لأنهم شغلوا أنفسهم بكتاب الله وبهدى سيدنا ومولانا رسول الله فعلاج أمراضنا في هؤلاء الثلاث: أولاً الحب{يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ}إذا أحببنا بعضنا ويكفينا في هذا حديث واحد لوطبقناه على أنفسنا وفي مجتمعنا ما وجدت مشكلة بيننا وهو قوله{لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأخِيهِ ما يُحِبُّ لِنَفْسِهِ }[3] فكما لا أحب أن يوشي أخي عليّ وشاية فلا أوشي على أخي وكما لا أحب أن يستأثر أخي عليّ فلا استأثر على أخي وكما لا أحب أن يسبّني أخي فلا أسبّ أخي، وكما لا أحب أن تتطاول علي زوجة جاري فلا أسمح لزوجتي أن تتطاول على جاري وكما لا أحب أن يؤذيني ابن أخي أو جاري أو قريبي فلا أسمح لابني أن يؤذي أخي أو جاري أو قريبي، وكل شئ لا أرضاه لنفسي لا أرضاه لغيري إذا فعلنا ذلك لم يكن هناك مشكلة ولا يصير بيننا مشكلة{وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا}
العلاج الثاني: إذا وثقت أن المعطي هو الله ويعطي بحكمة لا يعلمها إلا الله فلماذا تحزن إذا لم يعطي لك ولداً كفلان ولماذا أغتم إذا حلى زوجة هذا ولم يحل زوجتي؟ ولماذا أحمل الهم فوق رأسي إذا جاء لزميلي في العمل ترقية ولم أنالها، وقيل شعراً لأحدهم[4]:
أَلا قُلْ لِمَنْ كَانَ لِي حَاسِدًا أَتَدْرِي عَلَى مَنْ أَسَأْت الأَدَبْ
أَسَأْت عَلَى اللَّهِ فِي حُكْمِهِ لأَنَّك لَمْ تَرْضَ مَا قَدْ وَهَبْ
فَجَازَاك رَبِّي بِأَنْ زَادَنِي وَسَدَّ عَلَيْك وُجُوهَ الطَّلَبْ
الحسود يعترض على المعطي لأنه هو الذي قسم الأرزاق وهو الذي قسم الأخلاق وهو الذي قسم العطاء وهو الذي أيضاً قسم البلايا والعناء ولو نظرت على التحقيق لوجدت أن الكل سواء فكما أن هذا عنده عطاء فلابد أنه عنده جانب من البلاء وإن كنت لا أراه ولا أشعر به ولكن اعلم يقيناً أن الله{وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ}فإذا رأيت على أخي نعمة أو رأيته في منة فيجب عليّ أن أفرح وأن أشكر الله وأن أحمد الله وأن أدعو الله أن يزيده نعماً على نعمه وخيراً وبراً على خيره وبره وفضلاً على فضله ولا تطلب من الله أن يمحق هذا الفضل أو أن يذهب هذا البر لأن هذا ليس من خصال المؤمنين وإنما من خصال الجاحدين والمنافقين والعياذ بالله فالمؤمن لا يحمل في قلبه ضغينة لأحد ولا حقداً على احد ولا حسداً لأحد بل يتمنى الخير والبر لجميع عباد الله حتى أنه يتمنى الهداية للكافرين ويتمنى العناية للجاحدين ويتمنى أن يوفق الله المشركين ليهتدوا لهذا الدين ويحب الخير حتى للكافرين يحب لهم أن يؤمنوا بالله وأن يهتدوا بهدى الله فما بالك بإخوانه المؤمنين إنه يحب لهم الخير في الدنيا والسعادة في يوم الدين{وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}يفضل إخوانه على نفسه لأنه يعلم أن الدنيا فانية وأن النعم الحقيقية هي النعم الباقية في جوار الله{وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً}النعم الفانية تحتمل البلاء وتحتمل العطاء فهي فتنة{إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} حتى المال والولد فتنة{لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ} فإذا وفق لشكر الله على نعمة الولد فقد فاز وجاز وإذا وفق لشكر الله على نعمة الزوجة فقد فاز وجاز ولكنه إذا نسى الله ولم يشكره على نعمه وعطاياه فقد جحد ورسب في الاختبار الذي أجراه له الله{تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ}لماذا {لِيَبْلُوَكُمْ}[أي يختبركم] {أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً}لكن النعم الخالصة التي ليس فيها احتمال وإنما هي محض عطاء أن يوفقك للعبادات، وأن يفتح لك باب القبول على الطاعات والقربات وأن يلهم لسانك ذكره وشكره وحُسن عبادته وأن يحبب إليك تلاوة القرآن وأن يحبب إليك متابعة النبي العدنان، وأن يحبب إليك فعل الخير في كل وقت وآن، وأن يذكرك بالدار الآخرة لتستعد لها، وأن يذكرك بالموت لتتأهب له هذه هي النعم الحقيقية التي يفرح بها المؤمنون وليس فيها ابتلاء وليس فيها فتن وليس فيها اختبار وإنما هي كما ورد فى الأثر{إذا أكرم الله عبدا ألهمه ذكره وألزمه بابه وآنسه به يصرف إليه بالبر والفوائد، ويمده من عند نفسه بالزوائد ويصرف عنه أشغال الدنيا والبلايا فيصير من خالص عباد الله وأحبابه فطوبى له حيا وميتا لو علم المغترون بالدنيا ما فاتهم من حظ المقربين وتلذذ الذاكرين، وسرور المحبين لماتوا كمدا}[5]إذا أحب الله عبداً يلهمه بذكره وشكره وحسن عبادته فإذا استطعنا أن نحيي في نفوسنا هذه المعاني الحب لعباد الله وأن نحمي نفوسنا من البغضاء والشحناء والحقد والحسد لجميع عباد الله وأن نملأ قلوبنا بالرغبة في العمل الدائم الذي ينفعنا بعد هذه الحياة من الإيثار ومن المعونة ومن المساعدة ومن المواصلة ومن البر ومن كظم الغيظ ومن العفو عن الناس ومن الإحسان إلى المظلومين ومن مساعدة المنكوبين ومن التفريج عن المكروبين إذا أحببنا هذه الأعمال وقمنا بها فلن يكون في مجتمعنا مشكلة أبداً يا إخواني جماعة المؤمنين ورد عن أصحاب نبيكم الكريم أن رجلاً ذبح شاة وتصدق برأسها على رجل من الفقراء فجلس مع زوجته فنظر في أمر نفسه وأمر إخوانه ثم قال: يا أم فلان إن أخي فلان أحوج إليها مني وذهب وأعطاها له فجلس الثاني مع زوجته ونظر في أمر إخوانه المؤمنين وقال يا أم فلان إن أخي فلان أحوج إلى هذه الرأس مني وذهب وأعطاها إليه فطافت الرأس على سبعة دور ثم رجعت إلى الأول مرة ثانية لتثبت سلامة صدورهم ورقة شعورهم وإحساسهم واستحقاقهم للوسام الذي نسبهم به ربهم{وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}قال النبى{ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء}[6]وقال{ المُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِنْ لِسانِهِ وَيَدهِ، والمهاجِرُ مَن هَجرَ ما نَهى اللّهُ عنه }[7]اعلموا علم اليقين أن آخر هذه الأمة لن يسعد إلا بما سعد به أولها وأولها لم ينالوا السعادة بالعمارات الشاهقة والأرصدة الزائدة والمصانع الشامخة وإنما نالوا السعادة بما في نفوسهم من حب وشوق وزهد وورع ونقى وغنى بالله وعفاف عما حرمه الله ولن ينصلح حال مجتمعنا إلا إذا عدنا لهذه الأخلاق النورانية ولهذه الخصال الإلهية التي أوصانا بها الله في كتابه وبينها لنا الرسول الكريم في هديه وفي سنته فإن المجتمع الذي أسسوه أسس على هذه الأخلاق فكان الرجل منهم لو عرضت عليه كنوز الدنيا لأتلفته عن خلق تخلق به لله وهداه إلى التمسك به سيدنا ومولانا رسول الله انظروا إلى هؤلاء القوم وقد خرجوا من المدينة حفاة عراة لا يملكون قليلاً ولا كثيراً وفتح الله لهم كنوز كسرى وكنوز قيصر وكانت شيئاً يدهش العيون لم تفكر فيه عقولهم ولم يرواد خيالهم مما فيه من مجوهرات ومما فيه من ذهب وفضة وما فيه من عسجد واستبرق وما فيه من أصناف المباهج والرياش التي لم تخطر ببال واحد منهم قط في حياته كلها، ولكنهم عندما فتحت لهم الكنوز لم تشغل بالهم وما سلبت عقولهم ولم تغير طباعهم وأخلاقهم وهذا هو المهم فقد قال لهم القائد من وجد شيئاً فليؤده لنا فكانوا يحضرون كل شئ حتى أن الرجل الذي وجد إبرة وليست بذات شأن كان يأتي ويسلمها إليه لا يدس شيئاً في ثيابه ولا يخفي شيئاً في متاعه لأنه يراقب الله ويحرص على هذا الخلق الكريم الذي خلقه به الله والذي وصاه به سيدنا ومولانا رسول الله وهو الأمانة في كل شئ فحملت الكنوز على جمال كان أولها في المدينة المنورة وآخرها في بلاد فارس كما يقول الرواة فى الأثر وعندما وضعت أمام عمر بن الخطاب لم تطرف عينه ولم تشغل باله ولم يجد صراعاً لاكتسابها أو للحصول عليها وإنما جلسوا متعجبين ولسان حالهم يقول كما قال القائد عندما رآها {كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ}علموا أن هؤلاء ضاعت منهم النعم لأنهم لم يشكروا واهب النعم فرجعوا إلى الله شاكرين حتى لا يشغلهم بالنعم عنه لأنهم يريدون أن يكونوا مع المنعم في جميع أحوالهم وفي جميع أوقاتهم فقال عمر بن الخطاب عندما رأى هذه الكنوز الفارهة(إن قوماً أدوا هذا لأمناء)فقال علي بن أبي طالب(عففت فعفت رعيتك يا أمير المؤمنين)هذا الذي نحتاجه نحتاج إلى بناء الأمانة في أولادنا وفي أنفسنا وفي أزواجنا نحتاج إلى بناء الإخلاص في قلوبنا وفي قلوب عمالنا ليكون خالصاً لله لأنهم لا يرجون سواه ولا يراقبون إلا إياه نحتاج لبناء الصدق في قلوب أهل مجتمعنا حتى نطمئن في بيعنا وفي شرائنا لأننا صرنا لا نثق في بعضنا حتى ضاعت الثقة في الأمين لأن الثقة أصبحت مفقودة بانتشار الكذب بين جماعة المسلمين. حتى أنه لو جاء رجل منهم وقد قرأ عن دين الله ويريد أن يرى العباد الذين يتبعون هذا الدين فيرى أحوال المسلمين هل يعتقد أن هؤلاء اتباع سيد الأولين والآخرين؟هل يعرفهم بأوصافهم؟إنه ينظر إلى وصفهم في القرآن أنهم لا يكذبون ويرى أمام عينيه كل تعاملاتهم مبنية على الكذب يقرأ أنهم لا يخونون ويرى أن كل همهم الخيانة وليست للأمانة عندهم صيانة يقرأ عن أمانتهم ويقرأ عن شهامتهم ويقرأ عن كرم ضيافتهم وينظر إلى الموجودين فيرى مسلمين بغير إسلام يرى مسلمين بالاسم وبشهادة الميلاد وبالبطاقات لكن أخلاقهم أخلاق الكافرين أو أخلاقهم أخلاق المنافقين أو أخلاقهم أخلاق غير المسلمين فأخوك فى الدين هو كما قال سيد الأولين والاخرين{من عامل الناس فلم يظلمهم ، وحدثهم فلم يكذبهم ووعدهم فلم يخلفهم فهو ممن كملت مروءته، وظهرت عدالته، ووجبت أخوته، وحرمت غيبته}[8] وكما ورد فى الأثر الشهير : الدين المعاملة ... الدين المعاملة ... الدين المعاملة
[1] رواه ألإمام مالك في الموطأ عن أنس، ورواه الترمذي والطبراني في الفتح الكبير عن زيد بن أرقم.
[2] رواه الطبراني والبزار عن أنس بن مالك.
[3] أخرجه البخاري في كتاب الإيمان وأبو يعلى في مسنده وأحمد في مسنده والدارمي في سننه عن أنس.
[4] : غذاء الألباب شرح منظومة الأداب لمحمد بن أحمد السفارينى
[5] الزهد الكبير للبيهقي رواية عن ذى النون
[6] رواه أحمد وأبو داود والترمذي والحاكم عن ابن عمر.
[7] رواه ابن حبان والطبراني في الكبير والحاكم عن فضالة ابن عبيد رضي الله عنه.
[8] مسند الشهاب عن على بن أبى طالب كرم الله وجهه.
الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ فوزي محمد أبوزيد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق