ان حاجة المسلم الى المرشد أصل من أصول الدين الهامة , الذى يتوقف عليه فهم
كثير من أموره و كشف أسراره , فنقول و بالله
التوفيق :ان المرشد هو النور الكاشف للظلمات و الشبهات , و هو الذى منحه الله الفقه فى
دين الله , و تأويل المتشابهات , و فك رموز
الخفيات من آيات القرآن و حديث رسول الله r , و هو الفرد الذى تتنزل عليه
الفيوضات و الالهامات من العلوم الوهبية اللدنية ,
زيادة كل ما حصله من العلوم الكسبية و الجتهادية , و هو العبد الذى اتاه الله رحمة
فى قلبه بعباد الله حتى قام يبذل كل ما لديه
لاخراج الناس من الظلمات الى النور , و يبين لهم معالم الدين الحنيف , و يجدد اثار
السنة المطهرة , و يعيد الى الاذهان ما خفى
من هدى أئمة الهدى , و ما اندرس من آداب و أحول و سلوك السلف الصالح رضى
الله عنهم , و ذلك سر قول رسول الله r :
" ان الايمان ليخلق كما يخلق الثوب فجدده"
و الايمان عمل من اعمال القلوب , و هو التصديق بكل ما جاء به رسول الله r من
عند الله , و اليقين بالآخرة ,و الغيب الذى فرض
الله علينا الايمان به و تجديد هذه الحقائق , و انما يكون بتلقى العلم النافع من
العارف الربانى المرشد الروحانى , الذى خشى
الرحمن بالغيب و جاء اليه بقلب منيب .
و هذا العلم تتزكى به النفوس , و تتطهر به القلوب , و تعلو به الهمم , و تنحشف
به الحقائق للمؤمن , فيتجدد ايمانه , و يقوى يقينه
, و يقبل على الاعمال البدنية بعزيمة صادقة و صدر منشرح , بحيث يكون له فى كل
عمل مشاهدت خاصه , و نيات صالحة , و
قصود طبية .
و المرشد الكامل أمل المؤمن و بغيته , و طلب امؤمن و مقصده , لأن صحبته تؤثر
على نفسه تأثيرا مباشرا و عميقا , و تجعل
المؤمن تشبه به فى سيره و سلوكه , وأخلاقه و آدابه , و تأثير الصحبة على
النفوس أمر لا يستطيع أحد ان يتجاهله , قال رسول
الله r :" المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل " (1) .
و قال صلى الله r :" مثل الجليس الصالح و الجليس السوء كحامل المسك و نافخ
الكير , فحامل المسك أما أن يحذيك و أما أن
يبتاع منه و أما أن تجد منه ريحا طبية , ونافخ الكير أما أن يحرق ثيابك و أما أن
تشم منه رائحة كريهة "
و من هنا كان طلب المرشد واجبا على المؤمن , لأنه يحمل المسك , و هوالعلم الذى
يؤثر فى النفوس , و يجد المؤمن رائحته فى
نفسه فيهش له القلب و يبش , و يشتاق المؤمن الى الجمالات و الكمالات الحقيقية
من معانى الدين الشريف , وهى الأمور التى
تتجدد بها الايمان , من الحب فى الله و البغض فى الله , و الثقة بالله , و التوكل على
الله , و التفويض لله , و الصبر و الرضى , و
الزهد و الورع , و الايثار و البر و الاحسان , و العفو و المسامحة , و الصلة و
المودة , و المرءة و النجدة و الشجاعة , و البعد
عن محارم الله و عن كل ما يكرهه الله و رسوله ظاهرا و باطنا , حتى يكون عبدا
قائما لله عز و جل بما يحبه و يرضاه , فى كل
وقت من اوقاته , بل فى كل نفس من أنفاسه .
و هذا لا يكون الا بصحبة العارف بالله , الخبير بأمراض النفوس و كيفية علاجها ,
لأنه يستخرج الشفاء من كتاب الله تعالى و سنة
رسوله r , و قال الامام على رضى الله عنه و كرم الله وجهه :
" اللهم لا تخلى الأرض من قائم لك بحجة , أما ظاهرا مشهورا , أو باطنا مستورا ,
لأن لا تبطل حجج الله و بيناته "
و قال أيضا رضى الله عنه : فلا تصحبن الا تقيا مهذبا عفيفا زكيا
منجزا للمواعد .
و المرشد المطلوب من أجل الترقى فى المقامات , و الرفعة الى أعلى الدرجات , لأن
المقامات غيب خفى , و المرشد ينزل
بالسالك فيها على قدر قواه الروحانية من غير ارهاق و لا اجحاف , و قال تعالى :
" و لا ترهقنى من أمرى عسرا " (3) .
و كان ذلك على لسان سيدنا موسى للخضر أثناء صحبتهما , و قال تعالى :
" و ما أريد ان أشق عليك ستجدنى ان شاء الله من الصالحين " (4) .
و كان ذلك على سيدنا شعيب لسيدنا موسى عليهما السلام , و عندما طلب منه أن
يعمل اجيرا ثمانى سنوات , و أن يتمها من عنده
عشرا , وذلك فى مقابل مهر أبنته التى زوجها له .
و تلك هى شروط الصحبه فى الله و رسوله التى بينها القرآن الشريف لنا حتى تكون
نبراسا يضئ لنا فى كل زمان و مكان .
و المؤمن الطالب للوصول الى رضوان الله الأكبر ومعية رسوله r , يجب عليه ان
يلازم المرشد رضى الله عنه بقدر استطاعته ,
حتى يعيش فى دائرة الحياة الحقيقية التى دعانا الله عز و جل اليها بقوله :
" يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله و للرسول اذا دعاكم لما يحييكم " (5) .
فان انتقل المرشد الى الحياة البرزخية , صاحب المريد أشبه الناس به أعماله و
أقواله , و أخلاقه و آدابه , و سيرته حتى لا يحرم
المؤمن صحبة المرشد فى صورة من صوره القربية منه فى المعانى و الحقائق , و
ذلك معنى قول الله عز و جل على لسان سيدنل
ابراهيم عليه السلام :" و اجعل لى لسان صدق فى الآخرين "
اى انسان من أهل الصدق فى اعماله و أقواله , و أحواله , بحيث يكون وارثا لما
أكرمتنى به من النبوه و العلم و الحكمة , فيكون
هذا الانسان الذى ورثنى فى ذلك , امتدادا لعمرى الكونى , و لحياتى العلمية و العملية
, و كأننى بذلك أعيش و أعمل الخير , و لى
ثواب ذلك و أجره من غير أن ينقص من أجر الوارث شئ , و قال r :
" من سن فى الاسلام سنه حسنة فله أجرها و أجر من عمل بها من بعده من غير أن
ينقص من أجورهم شيئا " (7) .
و طلب المرشد و صحبته , صارت أمرا لازما للمؤمن , يذكرنا به القرآن الكريم فى
قول الله عز و جل :
" يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله و كونوا من الصادقين " (8) .
و المتدبر لهذه الآية الشريفة , يرى أن الله عز و جل , يأمر فيها المؤمن بأمرين :
الأمر الأول , هو تقوى الله عز و جل , و الأمر الثانى , هو أن يكون المؤمن مع
الصادقين حيث يكونوا , و كون الأمر الثانى مترتب
على الأمر الأول , و هو تقوى الله و يعطى أهمية بالغة للأمر الثانى , و هو ضرورة
البحث عن الصادقين الذين صدقوا مع الله و
رسوله , و ضرورة صحبتهم و ملازمتهم , حتى يعيش المؤمن فى دائرة الصدق و
الصادقين و الصديقين , فلا يجد المؤمن فراغا
من وقته يلعب به الشيطان فى اللهو و الهزل , و البعد عن الله و رسوله , بيضيع
وقته , و هو أغلى شئ عنده , فانه بفقده يفقد ن
فسه و حياته و كل شئ , و لا يمكن عودة ما مضى من الوقت , و لا درك ما فاته فيه
, فأن لكل وقت واجب مخصوصا , و حقا معينا
, قد فات بوفاته , و ضاع بضياعه .
و صحبة الرجال تجعل الانسان منهم , و على الأقل يكون من أهل معيتهم , وقال r :
" هم القوم لا يشقى هم جليسهم " (9) .
فينال من فضلهم الذى ينعمون فيه , و كذلك صحبتهم تحفظ الانسان و تصونه من
المعصية و أسبابها لأنه حصون أمن العارفين
بالله , فهم يتولونه بالرعاية و النظر و المتابعة , قال تعالى :
" انما وليكم الله و رسوله و الذين أمنوا " (10) .
فولاية الله للمؤمن , التفضل عليه بسابقة الحسنى أزلا , وعنايته به أبدا , وولاية
رسول الله للمؤمن اخراجه اياه من الظلمات الى
النور . قال تعالى :
" رسولا يتلو عليكم آيات الله مبينات ليخرج الذين آمنوا و عملوا الصالحات من
الظلمات الى النور " (11) .
وولاية العارفين بالله للمؤمن أمرهم له بالمعروف , و نهيهم له عن المنكر ,
بالاسلوب الذى يجعله يعشق المعروف و يسارع الى
عمله , و يبغض المنكر و يفر من الوقوع فيه , قال الله تعالى :
" و المؤمنين و المؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف و ينهون عن
المنكر "(12) .
فكلما همت نفس المؤمن بمعصية أو بمكروه , وجد من يذكره و ينبهه , و يعيد اليه
رشده و صوابه , لأنه فى دائرة ولاية العارف
بالله و رعايتة , و كل راع مسئول عن رعيته , و كذلك يكرم بالمعارف و العلوم التى
تكشف عنه سحب الجهالة و الغفلة و البعد
عن رضوان الله و رسوله .
و هناك كثير من الآيات القرآنية التى تحث المؤمن على الصبر فى صحبة العارفين
والتأسى بهم . قال تعالى :
" و أصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة و العشى يريدون وجههو لا تعدوا
عيناك عنهم " (13) .
و قال سبحانه على لسان مؤمن أل فرعون :" و قال الذى آمن يا قوم اتبعونى أهدكم
سبيل الرشاد " (14) .
و قال الله تعالى : " و اتبع سبيل من أناب اليك " (15) .
و قال صلى الله عليه و سلم :" اذا رأيتم الرجل قد أوتى صمتا و زهدا فاقتربوا منه
فانه يلقى الحكمة " (16) .
و المتأمل فى احوال العارفين بالله و رسوله , و يجد أنهم امناء الله و رسوله على
دين الله ورسوله , و خلفاء الله و رسوله على
عباد الله , و الحريصون على خير الناس كلهم , و المجاهدون فى سبيل ايصال هذا
الخير لعباد الله , متخذين فى سبيل ذلك كل
الوسائل والحيل , أملا فى نجاة الناس و هدايتهم الى الصراط المستقيم , و قد
استودع الله الرحمة و الحلم فى قلوبهم , و جعل
الاخلاص و الصفاء و الطهر من شيمهم :
" يحبون من هاجر اليهم ولا يجدون فى صدورهم حاجة مما اوتوا و يؤثرون على
انفسهم و لو كان بهم خصاصة " (17) .
و معنى ( لا يجدون فى صدورهم حاجة مما اوتوا ) يعنى أن صدورهم ليس فيها
حاجة و رغبة الى شئ من متاع الدنيا و نعمها ,
التى اكرم الله بها اخوانهم المهاجرين , فلا تستشرف نفوسهم , و لا تتطلع الى شئ
مما اعطاه الله و رسوله لاخوانهم المهاجرين ,
و ان صدورهم قد ملئت بالرضا عن الله و رسوله , و عن اخوانهم الين آتاهم الله و
رسوله من فضله .
و ذلك ميزان دقيق جدا يزن الله به احوال الرجال العارفين بالله , فان العبد الذى يجد
فى نفسه غضاضة , أو ألما , أو كراهية , أو
استياءا من رزق مادى أو روحى ساقه الله لاحد من اخوانه المؤمنين , فلن يشم
رائحة المعرفة باللع عز و جل , لأنها حظر على
هذه الصدور المتبرمة بفعل الله و عطاء الله فقط فى المدينة , و انما هى اوصاف لمن
يحبه الله من عباده المقربين , اين كانوا و
كيف كانوا , و فى أى زمان كانوا .
لأن العبرة فى كلام الله و رسوله , و انما تكون بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ,
فان الله يضع مبادئ عامة , و قواعد كلية , و
نظاما شاملا يسير عليه المسلمون الى يوم القيامة .
و لقد كان اصحاب رسول الله r أئمة الهداة و العارفين و المرشدين , رضى الله تعالى
عنهم اجمعين فهم فى الذروة من كل مجد و
سناء , ومن كل خلق كريم و صفاء , و لقد أفلح القائل :
قم للمعلم و فه التبجيلا كاد المعلم ان يكون رسولا
أرايت أفضل أو أجل من الذى يبنى و ينشئ أنفاسا و عقولا
و قال الامام على :
أقبل على النفس واستكمل فضائلها فأنت بالنفس لا بالجسم انسان
و لله در القائل :
أقدم أستاذى على حق والدى و ان كان لى من والدى النسب و الشرف
فذاك مربى الروح و الروح جوهر و هذا مربى الجسم , و الجسم من صدف
ويقول الامام ابو العزائم رضى الله عنه :
هذبا للنفس ان رمت الوصول غير هذا عندنا علم الفضول
حصل العلم بعزم صادق لا تكن فى العلم كسلانا ملول
علم النفس بتوحيد العلى من بيان الآى عن الفرد قؤول
و اصطفى الرؤوف الرحيم اسعى الى من يزكى النفس عنه لا تحول
حصل الاحكام بالقدر الذى يقتضيه الوقت لا قال يقول ...
من هذا العرض السريع , ينكشف لك يا أخى السائل , ضرورة التعرف على المرشد
الكامل , و مجاهد النفس فى صحبته , و ان كان
معنا و بيننا العلماء الحافظون لأحكام الشريعة , و المفتون لنا فو مشكلاتنا , الا ان
المرشد يكشف لنا عن اسرار هذه الاحكام و
حكمتها , و يعرف أمراض النفوس و كيفية علاجها , ولأن حاله يشرق على النفوس
فيزكيها , و على القلوب فيطهرها , و على
الأرواح فيرقيها , و على الجوارح فتقشعر من خشية الله و تلين الى طاعة الله و
رسوله , و ان الحكمة العالية تتراءى لنا من
خلال احاديثه , تهدى العقول و الافكار الى سواء السبيل .
و فقنا الله جميعا لمعرفة المرشد الكامل , لأنه صورة رسول الله التى تعيش على بيننا , و رزقنا الله جميعا صحبته و محبته .. آمينو
صلى اللهم على سيدنا محمد الممد بروحانيته أرواح الأئمة المهتدين , و الأمناء الناصحين , و على آله و صحبه و سلم .
والله من وراء القصد وهو يهدى السبيل. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه وسلم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق