ان إراحة أَفكار المسلمين من الاشتغال بما يضر ولا ينفع ، الأَمر الذي سبب فرقة المسلمين ، ووقوع العداوة والشحناء بينهم وأنساهم ذكر الله والعمل بكتابه ، بل وأَنساهم ذكر الموت وما بعده ، وجعل غير المسلمين يظنون أَن الدين الإسلامي.
1- إن أول بلاءٍ حصل للمسلمين ، وأعظم دسيسة دسها إبليس بيننا هي شواظ نار التفاضل ، ظهرت تلك الفتن في عصر الصحابة – رضوان الله عليهم- ولكنها كانت بابا من أَبواب التنافس في المسارعة إلى الخير ، فكانوا في عصر رسول الله يفضلون أَبا بكر فعمر فعثمان ، ويسمع ذلك رسول الله
فلا ينكر عليهم ، ولكن الشيطان – لعنة الله عليه – يئس أَن يعبده من قال : "لا إله إلا الله محمد رسول الله" ، أَو أَن يعبد المسلم غير الله ، فشد خيله ورجله ؛ ليوقع بينهم العداوة والتفرقة والاختلاف في الرأي والفكر ، فَدسَّ – بعد انتقال رسول الله إلى الرفيق الأَعلى – دسيسة التفاضل بينهم – رضوان الله عليهم -، - واشتد التعصب من كل فريق لمن فضِّله ، حتى تفرقت الجماعة ، وتشعب الأَصل الواحد ، واختلفت الآراء والمذاهب والاعتقادات ، وإن كان أَكثر الخلاف لفظيا ، إلا أنه أَثر في قلوب العامة ، فكان مَانعْلمْ ، بعد خلافة سيدنا عمر رضى الله عنه وحتى الآن بولكن كيف تتالف القلوب إلى الاجتماع بعد الفرقة ، والائتلاف بعد الاختلاف .
أيها الحاكمين بأَن فلانا أَفضل من فلان ، هل كان حكمكم هذا قائما على ما عند الله؟ أَم كان قائما علي ما عند أَنفسكم؟ فإِن كان قائما على ما عند الله تعالى فذلك مالا يحكم به إِلا الله تعالى ، وإن كان قائما على ما عند أَنفسكم فهذا شيء خاص بأَنفسكم ، قد يكون عن حظ وهوى – وتكون الحقيقة عند الله غير ذلك - ، فإِن كان حقا : حصلت لكم النجاة ، ولم يأْمركم الله بأَن تدعوا الناس إلى اعتقاد أَن فلانا أَفضل من فلان ، لأن ذلك ليس من الدين في شيء. وإن كان باطلا : أَرحتم أنفسكم من تحمل عقوبة الدعوة إلى الباطل ، وقد نهانا رسول الله أَن نحكم على الله بأَن هذا من أَهل الجنة ، أو ما أَشبه ذلك ، بأَن نقول : نحسب أَنه كذا ، وقد سد رسول الله هذا الباب سدا محكما بأَجلى مظاهر المبالغة فيه بقوله : "لاَ تفضلوني عَلَى يُونِس بْن مَتَّى" ، تنبيها لقلوب المؤمنين إلى أن الاشتغال بمثل هذا مفسدة للدين. وإنما أَنت – أَيها الأَخ البار – عليك أَن تقتدي بالعلماءِ ، وتجتهد لأَن تصل إلى مقاماتهم العلية ، وتفوز بمشاهدهم القدسية ، وتتجمل بأَحوالهم الروحانية ، وتتعلم علومهم الربانية ، لا لتشغل نفسك بتفضيل زيد على عمرو ، وبكر على خالد ، لأَنك بذلك حرمت المسارعة إلى الخير ، والمبادرة إلى الغنيمة ، والمعاونة على البر والتقوى ، واشتغلت بما لاينفع ، وما الذي ينتفع به منك منْ أَنت تفضله على غيره ، اللهم إلا فتح باب المضرة عليه ، وتمكين الشيطان من قلوب المسلمين ، وربما أدى ذلك إلى مالا يرضاه الله تعالى ورسوله . أيها الشيع المتفرقة ، والطوائف المختلفة : أَليست تجمعنا جميعا كلمة التوحيد ، ويجمعنا الإيمان بالقرآن ، والتصديق برسول الله ، وأعمال أركان الإسلام الخمس ، والإيمان بيوم الحساب ، فما بالنا : كلنا واحد في الأُصول ، والمرجع ، والإيمان والإسلام ، فما الذي فرقنا؟ ؟ إننا لم نتفرق لاختلاف في ديننا ، ولا لتفاوت في كتابنا موجب للإختلاف ، ولا لأَن نبينا أَخفى علما عن جماعة ، وأظهره لآخرين ، لا : والله إنما التفرقة لجهل بالله سبحانه ، وبرسوله ، وبكتابه وسنة نبيه ، ولطمع في الدنيا ، ورغبة العلو فيها ، وأمل في البقاءَ الفاني ، ومنافسة في السيادة والمجد والشرف.قف أيها القلم ، لا تتجاوز – وأَنت تكتب في الأَدب – حدود الأَدب . هذا ما أنتجه الاشتغال بالتفاضل . وهناك أَسباب أُخرى تليه ، ليست بأقل منها، أَوجبت التفرقة والنفور ، والعداوة والشحناءَ ، ما هي ؟ وممن هي؟ هي فتح باب الفتن بالتكلم فيما سكت الله عنه ، وسكت عنه رسوله : رحمة بالمسلمين ، فلم يحرمها وأخبر أَن الورع اتقاؤها ، فلم يحكم بحرمتها ، لأَن الورع من أَخص صفات المؤمنين ، ومن أَعمال القلوب التي يهب الله عليها رضوانه الأَكبر.
وأَما الذي قام بفتح باب الفتن فهم أَدعياءُ تحصلوا على قشور من أَحكام الشريعة المطهرة ، فلم تقع بهم عين اليقين على حقيقة العلم ، ولم يطلعوا على حكمة الأَحكام ، ولم يذوقوا حلاوة لب اللباب ، ولم يعلموا أَن محل نظر الله تعالى : القلوب ، وأَن الخير كله في عملها ، وأَن القرب كله متوقف على التخلق بأخلاق الله ، والتشبه بالروحانيين من عمَّار ملكوت الله ، فتركوا الجواهر تحت أقدامهم ، وانصبوا بكليتهم على فتح أَبواب الشبه والتي أجملها فيما يلي:
1- التشنيع على الذكر والذاكرين : خذ لك مثلا أو مثالا ... إن هؤُلاء الأَدعياء إِذا رأوا جماعة يذكرون الله في بيت من بيوته ؛ قاموا فذمُّوا ، وحكموا أَن ذلك من البدع وإِذا سمعوا رجلا أعجميا فيهم لا يحسن النطق بكلمة التهليل ، أو بالاسم الشريف ، أو سمعوهم يلحنون في النطق بالذكر : قاموا فرموهم بالضلال والبدعة ومخالفة الشريعة ، وكان الأَولى بهم لو كانوا علماءِ حقيقة – أن يعتقدوا أَن اجتماع هؤلاءِ على ذكر الله ، واشتغالهم به عما سواه : دليل على طمأنينة قلوبهم بذكر الله ، كما قال تعالى : أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ(19). فجلسوا معهم ليتعلموا منهم طمأْنينة القلب الذي هو جوهر الدين ، وروح الإِيمان، ويعلمونهم بلطف ورحمة اعتدال اللسان ، الذي هو قشور بالنسبة لعمل القلوب. ولكنهم لقلة علمهم ، وجهلهم بحقيقة العلم ، فتراهم يمرون عليهم مر السحاب إلى بيوتهم ، ويتناولون القلم الذي هو سيف الفساد ، ويسودون الصحف بالقذف والسب واللعن ، حتى ينفروا منهم أهل التسليم الذين لو أَلفوهم لكانوا أَئمة، لتسليمهم وصدقهم وإخلاصهم وتواضعهم ، فينتج من ذلك : أن الذاكرين يكرهون العلماءِ ، ويرون أن العلماء أَعداء الطريق وأَهله، فتحصل التفرقة بين العلماءِ وبين المؤهلين للعلم من أهل التسليم ،وما ذلك إلا من عمل الجهلاءِ المغرورين بما تحصلوا عليه من قشور العلم.
2- الإنكار على قراءة القرآن في بيوت الله : مثال آخر : إذا جلس رجل في بيت من بيوت الله يقرأ سورة الكهف : قاموا فأنكروا عليه ، ورموه بأن ذلك بدعة وضلالة ، وسبوه وقذفوه ، فهؤلاء جعلوا قراءَة القرآن في المسجد منكرا ، وجعلوا الإصغاء له بدعة وضلالة ، مع أَن الصحابة – رضوان الله عليهم – كانوا يتدارسون القرآن في المسجد على عهد رسول الله . ولنفترض أن الصحابة لم يقرءوا سورة الكهف في المسجد يوم الجمعة ، وأَنها بدعة ، فكم من بدعة هي حسنة من الحسنات ، وكم أَحدث سيدنا ومولانا أبو بكر ، وسيدنا ومولانا عمر بن الخطاب ، وسيدنا ومولانا عثمان ابن عفان : بدعا ، هي عين السنة ، وما رآه المسلمون حسنا فهو حسن.
3- ترك الحكمة في الدعوة والموعظة الحسنة في الإرشاد : فهؤلاء المدعون : تركوا الحكمة في الدعوة ، والموعظة الحسنة في الإرشاد ، وفتحوا أَبواب الشر على المسلمين ، وشغلوهم بما يضر ولا ينفع. إذا رأَوا رجلا تعلم الواجب عليه من الدين ، ومنّ الله عليه بعلوم اليقين: كالحب والإخلاص والصدق والخشوع والرغبة والطمع والرجاءَ والخوف واليقين الحق بالتوحيد ، ومنحه الله الحكمة التي يمكنه أَن يبينها ولكن بعبارة ليست بليغة أو ليست موافقة للنحو والصرف ولكنها تؤثر في القلوب لأَنها صادرة من القلوب .. قاموا عليه فرموه بأنه جاهل ، وبأنه كافر ، كأَنهم يرون أَن العلم كله هو علم اللسان ، ولا علم غيره. أَنا أَشاركهم في أَن مَنْ وهبهم الله تلك المنن ، وأقامهم مقام الدعاة إلى الله ؛ فالأجمل بهم أن يحصّلوا ما لابد منه من علوم اللسان ، ولكنى أَعتقد أَن صغير مواهبهم أَجل وأَعظم مما اكتسبه هذا المغرور بقشور العلم.
4- الوقوع في أكبر الكبائر حال الدعوة إلى ترك مكروه أو عمل مندوب : وقد تشتد حماقة الرجل منهم وغضبه على أمر هين - كترك العذبة ) - حتى يقع في أكبر الكبائر حال دعوته إلى ترك (مكروه ، أو عمل مندوب ، وهو لا يشعر ، وربما حكم بتحريم شيء وهو لا يميز بين معنى الحلال والحرام ، وقد يحكم بنجاسة شيء وهو لا يميز بين الأنواع الطاهرة والأنواع النجسة ، بل ولا يميز الفرق بين نوع صفة النجاسة ، والطهارة ، وكل ذلك من جهله بأسرار السنة ، ومن جهله بنفسه ، وجهله بقدر علمه. وقد كان البلاء منهم على المسلمين أَشد من بلاءِ الأَعداء على المسلمين ، فإِنهم شغلوا المسلمين بالوقيعة ، وملأُوا قلوبهم ضغائن ، وجعلوا الصغار يحقرون السلف الصالح والكبار يحقرون كبار أهل عصرهم.
5- مخالفة رسول الله في أخلاقه وسنته في الدعوة : مثال آخر : ما يحصل من بعض مِنْ نصبوا أَنفسهم للإرشاد ، أو انتسبوا للعلم : عند الأمر بالمعروف ، أو النهى عن المنكر من شدة ألفاظه في الأخلاق ، والغلظة في الطباع ، والسخف في القول : متذرعا بحجة أن هذا من الدين ، وأَن هذه نصيحة ، وأن هذه الطريقة الشرعية التي أمر الله بها ، ويجهلون أنهم وقعوا في كبائر لا تحصى منها: مخالفة رسول الله في أخلاقه ومخالفة سنته في الدعوة ، وتنفير عباد الله ، ووقوعهم في بغض الدين وبغض أهله ، وظنوا أنهم أحسنوا ، وربما كان الذي يدعون إليه من الأُمور المرغّب فيها خلاف الأولى ، أو كان الذي ينهون عنه أَيضا خلاف الأولى . فعجبا ، كيف يلقى الإنسان بنفسه في الهاوية وهو يظن أنه يحسن عملا ؟ وما ذلك إلا من جهله.
ومن الدعاة الجهلاء من يجلسون في وسط العامة فيذكرون اسم وليّ من أولياءَ الله ، ويبثون عنه الأقاصيص ،التي توهم أنه ينفع ويضر ، وأن من اتبعه يكثر ماله وولده ، وأَن من زار قبره تقضى حوائجه ويموت أعداؤه ، ويذكرون لهم من الكرامات ما هو حق وباطل ، حتى يرغب فيه الناس ، فيكون الضرر بذلك من جهتين : من جهة أَنهم يتبعون طريقه لعاجل فان ، فيكونون ممن يعبدون الله على حرف ، ومن جهة أخرى فإنهم يتبعونه لينتفعوا به من الجهة التي لا يمكنه أَن ينفع نفسه ولا غيره بها ؛ لأَن النافع هو الله ، ويُحرَمون النفع به من الجهة التي يَنفَع منها ، لأن الله أقامه سببا للنفع ،وهى جهة تلقى العلوم ، وفهم فقه القرآن الشريف ، وتزكية النفس ،وفهم أَسرار التوحيد ، وكشف حكم الأحكام ،والتجمل بعلوم اليقين: مما به السعادة الأبدية ، التي لا تُذكر الدنيا في جانبها بشئ ، إلا كما يُذكر العدم مع الوجود. وقد يحصل ضرر ثالث – بالإضافة إلى الضررين السابقين يقل عن هذين الضررين، وهو أَن يكون الرجل الذي يدعون إليه متوفى وليست له كتب علمية ينفع بها من يقتدي به ، فيحصل الضرر لمن اتبعه بحرمانه من طلب الرجل العالم الذي جعله الله نورا ، فيُحرم من الانتفاع بعلمه ، والاقتداء بعمله. وقد كثرت تلك الطوائف ، وعم الضرر بهم ، حتى صار أكثر العامة إذا اتبع طريقا فكثر ماله وولده : فرح ، واعتقد أَن هذا من إتباعه للطريق . وإن قل ماله : تشاءم ، وقال : هذا من الطريق ، كما حصل في عصر رسول الله ، من الذين أنزل الله في حقهم قوله تعالى : وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ( ).
كلنا – جماعة المسلمين – نعتقد أن الرجل العالم العامل إذ دعا إلى الله على بصيرة ، وأقام حجج الله للقلوب فاطمأنت ، وللنفوس فتزكت ، وللأبدان فنشطت : أكرام الله من اتبعه ، بمعنى قوله تعالى : وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ( ) . فإن الله تعالى يكرم من اتبع ، العالم العامل بأَن يشرح صدره ، وييسر أمره ، ويمنحه الصبر واليقين . لأن الرجل يدعو إلى التوحيد الخالص ، والأَعمال الواجبة والمسنونة ، ومكارم الأخلاق ، ويدعو لحسن المعاملة.
وأنوار التوحيد إذا أشرقت على قوم اطمأنت قلوبهم بربهم ، فَرَضُوْا عنه ، لكمال توحيدهم ، وصبروا لكمال إيمانهم. فالواجب على من دعته نفسه أَن يقوم داعيا إلى الله : أن يدعوها أولا هي إلى الله ، فإِن أَطاعته ؛ ألزمها أن يتعلم ما لابد منه من معرفة الطريق ، ويتحصل على ما لابد منه من الزاد والراحلة بالعلم والخلق والعمل ، فإذا أطاعت وحَصّلت : فليطالبها بالإخلاص ، والرحمة بجميع الناس ، فإن قبلت : بحث فإن علم برجل أعلم منه بالله ، وبأَحكامه ، وبأَيامه ، وأَحاط علما بسنن رسول الله : فَلْيَسْعَ إليه ، ولو بالصين، ليزداد علما ، ويكمل خلقا ، ويزكو نفسا ، ثم بعد ذلك يقوم فيدعو بالتي هي أَحسن.
وبعض من ينتسبون إلى العلم أو للطريق يجعلون العلم أو الطريق بابا من أبواب طلب الدنيا ، حتى تكون أَعمالهم الواجبة ليست لله ، ولكنها تصير تزيناً للتوسع في الدنيا. فعلى الذين منحهم الله النشاط للسياحة في الأَرض ، ووهب لهم لسان الحكمة : أَن يطهروا قلوبهم لله عند دعوة إخوانهم إلى الله عن أن يكون العمل لعرض يفنى ، أو غرض يزول ، ولْيتحققوا أَن هذا العمل الشريف هو عمل الرسل – صلوات الله وسلامه عليهم ، ولْيغاروا على قلوبهم وأَبدانهم أَن تستبدل برضوان الله وفردوسه الأَعلى ومعية النبيين والصديقين والشهداء: متاعاً يفنى وتبقى عقوبته ، وعرضا يزول وتبقى تبعته ، إِن هذا هو الخسران المبين. إن المرشد الذي جعل الله له نورا في قلبه ، وآتاه الله من لدنه علما ، ووهب له لسان الحكمة ، ومواهب المعرفة : لو أَن الناس قدموا له نفائس أَموالهم وقبلها منهم ؛ لكان ذلك قليلا في جانب علم سر من أَسرار كتاب الله، وفقه حكم من أحكام الله ، ومع ذلك فإِنه ينزه قلبه أَن يقبل من الناس ، أو يُقبل عليهم بقلبه لغير الله تعالى .
1- إن أول بلاءٍ حصل للمسلمين ، وأعظم دسيسة دسها إبليس بيننا هي شواظ نار التفاضل ، ظهرت تلك الفتن في عصر الصحابة – رضوان الله عليهم- ولكنها كانت بابا من أَبواب التنافس في المسارعة إلى الخير ، فكانوا في عصر رسول الله يفضلون أَبا بكر فعمر فعثمان ، ويسمع ذلك رسول الله
فلا ينكر عليهم ، ولكن الشيطان – لعنة الله عليه – يئس أَن يعبده من قال : "لا إله إلا الله محمد رسول الله" ، أَو أَن يعبد المسلم غير الله ، فشد خيله ورجله ؛ ليوقع بينهم العداوة والتفرقة والاختلاف في الرأي والفكر ، فَدسَّ – بعد انتقال رسول الله إلى الرفيق الأَعلى – دسيسة التفاضل بينهم – رضوان الله عليهم -، - واشتد التعصب من كل فريق لمن فضِّله ، حتى تفرقت الجماعة ، وتشعب الأَصل الواحد ، واختلفت الآراء والمذاهب والاعتقادات ، وإن كان أَكثر الخلاف لفظيا ، إلا أنه أَثر في قلوب العامة ، فكان مَانعْلمْ ، بعد خلافة سيدنا عمر رضى الله عنه وحتى الآن بولكن كيف تتالف القلوب إلى الاجتماع بعد الفرقة ، والائتلاف بعد الاختلاف .
أيها الحاكمين بأَن فلانا أَفضل من فلان ، هل كان حكمكم هذا قائما على ما عند الله؟ أَم كان قائما علي ما عند أَنفسكم؟ فإِن كان قائما على ما عند الله تعالى فذلك مالا يحكم به إِلا الله تعالى ، وإن كان قائما على ما عند أَنفسكم فهذا شيء خاص بأَنفسكم ، قد يكون عن حظ وهوى – وتكون الحقيقة عند الله غير ذلك - ، فإِن كان حقا : حصلت لكم النجاة ، ولم يأْمركم الله بأَن تدعوا الناس إلى اعتقاد أَن فلانا أَفضل من فلان ، لأن ذلك ليس من الدين في شيء. وإن كان باطلا : أَرحتم أنفسكم من تحمل عقوبة الدعوة إلى الباطل ، وقد نهانا رسول الله أَن نحكم على الله بأَن هذا من أَهل الجنة ، أو ما أَشبه ذلك ، بأَن نقول : نحسب أَنه كذا ، وقد سد رسول الله هذا الباب سدا محكما بأَجلى مظاهر المبالغة فيه بقوله : "لاَ تفضلوني عَلَى يُونِس بْن مَتَّى" ، تنبيها لقلوب المؤمنين إلى أن الاشتغال بمثل هذا مفسدة للدين. وإنما أَنت – أَيها الأَخ البار – عليك أَن تقتدي بالعلماءِ ، وتجتهد لأَن تصل إلى مقاماتهم العلية ، وتفوز بمشاهدهم القدسية ، وتتجمل بأَحوالهم الروحانية ، وتتعلم علومهم الربانية ، لا لتشغل نفسك بتفضيل زيد على عمرو ، وبكر على خالد ، لأَنك بذلك حرمت المسارعة إلى الخير ، والمبادرة إلى الغنيمة ، والمعاونة على البر والتقوى ، واشتغلت بما لاينفع ، وما الذي ينتفع به منك منْ أَنت تفضله على غيره ، اللهم إلا فتح باب المضرة عليه ، وتمكين الشيطان من قلوب المسلمين ، وربما أدى ذلك إلى مالا يرضاه الله تعالى ورسوله . أيها الشيع المتفرقة ، والطوائف المختلفة : أَليست تجمعنا جميعا كلمة التوحيد ، ويجمعنا الإيمان بالقرآن ، والتصديق برسول الله ، وأعمال أركان الإسلام الخمس ، والإيمان بيوم الحساب ، فما بالنا : كلنا واحد في الأُصول ، والمرجع ، والإيمان والإسلام ، فما الذي فرقنا؟ ؟ إننا لم نتفرق لاختلاف في ديننا ، ولا لتفاوت في كتابنا موجب للإختلاف ، ولا لأَن نبينا أَخفى علما عن جماعة ، وأظهره لآخرين ، لا : والله إنما التفرقة لجهل بالله سبحانه ، وبرسوله ، وبكتابه وسنة نبيه ، ولطمع في الدنيا ، ورغبة العلو فيها ، وأمل في البقاءَ الفاني ، ومنافسة في السيادة والمجد والشرف.قف أيها القلم ، لا تتجاوز – وأَنت تكتب في الأَدب – حدود الأَدب . هذا ما أنتجه الاشتغال بالتفاضل . وهناك أَسباب أُخرى تليه ، ليست بأقل منها، أَوجبت التفرقة والنفور ، والعداوة والشحناءَ ، ما هي ؟ وممن هي؟ هي فتح باب الفتن بالتكلم فيما سكت الله عنه ، وسكت عنه رسوله : رحمة بالمسلمين ، فلم يحرمها وأخبر أَن الورع اتقاؤها ، فلم يحكم بحرمتها ، لأَن الورع من أَخص صفات المؤمنين ، ومن أَعمال القلوب التي يهب الله عليها رضوانه الأَكبر.
وأَما الذي قام بفتح باب الفتن فهم أَدعياءُ تحصلوا على قشور من أَحكام الشريعة المطهرة ، فلم تقع بهم عين اليقين على حقيقة العلم ، ولم يطلعوا على حكمة الأَحكام ، ولم يذوقوا حلاوة لب اللباب ، ولم يعلموا أَن محل نظر الله تعالى : القلوب ، وأَن الخير كله في عملها ، وأَن القرب كله متوقف على التخلق بأخلاق الله ، والتشبه بالروحانيين من عمَّار ملكوت الله ، فتركوا الجواهر تحت أقدامهم ، وانصبوا بكليتهم على فتح أَبواب الشبه والتي أجملها فيما يلي:
1- التشنيع على الذكر والذاكرين : خذ لك مثلا أو مثالا ... إن هؤُلاء الأَدعياء إِذا رأوا جماعة يذكرون الله في بيت من بيوته ؛ قاموا فذمُّوا ، وحكموا أَن ذلك من البدع وإِذا سمعوا رجلا أعجميا فيهم لا يحسن النطق بكلمة التهليل ، أو بالاسم الشريف ، أو سمعوهم يلحنون في النطق بالذكر : قاموا فرموهم بالضلال والبدعة ومخالفة الشريعة ، وكان الأَولى بهم لو كانوا علماءِ حقيقة – أن يعتقدوا أَن اجتماع هؤلاءِ على ذكر الله ، واشتغالهم به عما سواه : دليل على طمأنينة قلوبهم بذكر الله ، كما قال تعالى : أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ(19). فجلسوا معهم ليتعلموا منهم طمأْنينة القلب الذي هو جوهر الدين ، وروح الإِيمان، ويعلمونهم بلطف ورحمة اعتدال اللسان ، الذي هو قشور بالنسبة لعمل القلوب. ولكنهم لقلة علمهم ، وجهلهم بحقيقة العلم ، فتراهم يمرون عليهم مر السحاب إلى بيوتهم ، ويتناولون القلم الذي هو سيف الفساد ، ويسودون الصحف بالقذف والسب واللعن ، حتى ينفروا منهم أهل التسليم الذين لو أَلفوهم لكانوا أَئمة، لتسليمهم وصدقهم وإخلاصهم وتواضعهم ، فينتج من ذلك : أن الذاكرين يكرهون العلماءِ ، ويرون أن العلماء أَعداء الطريق وأَهله، فتحصل التفرقة بين العلماءِ وبين المؤهلين للعلم من أهل التسليم ،وما ذلك إلا من عمل الجهلاءِ المغرورين بما تحصلوا عليه من قشور العلم.
2- الإنكار على قراءة القرآن في بيوت الله : مثال آخر : إذا جلس رجل في بيت من بيوت الله يقرأ سورة الكهف : قاموا فأنكروا عليه ، ورموه بأن ذلك بدعة وضلالة ، وسبوه وقذفوه ، فهؤلاء جعلوا قراءَة القرآن في المسجد منكرا ، وجعلوا الإصغاء له بدعة وضلالة ، مع أَن الصحابة – رضوان الله عليهم – كانوا يتدارسون القرآن في المسجد على عهد رسول الله . ولنفترض أن الصحابة لم يقرءوا سورة الكهف في المسجد يوم الجمعة ، وأَنها بدعة ، فكم من بدعة هي حسنة من الحسنات ، وكم أَحدث سيدنا ومولانا أبو بكر ، وسيدنا ومولانا عمر بن الخطاب ، وسيدنا ومولانا عثمان ابن عفان : بدعا ، هي عين السنة ، وما رآه المسلمون حسنا فهو حسن.
3- ترك الحكمة في الدعوة والموعظة الحسنة في الإرشاد : فهؤلاء المدعون : تركوا الحكمة في الدعوة ، والموعظة الحسنة في الإرشاد ، وفتحوا أَبواب الشر على المسلمين ، وشغلوهم بما يضر ولا ينفع. إذا رأَوا رجلا تعلم الواجب عليه من الدين ، ومنّ الله عليه بعلوم اليقين: كالحب والإخلاص والصدق والخشوع والرغبة والطمع والرجاءَ والخوف واليقين الحق بالتوحيد ، ومنحه الله الحكمة التي يمكنه أَن يبينها ولكن بعبارة ليست بليغة أو ليست موافقة للنحو والصرف ولكنها تؤثر في القلوب لأَنها صادرة من القلوب .. قاموا عليه فرموه بأنه جاهل ، وبأنه كافر ، كأَنهم يرون أَن العلم كله هو علم اللسان ، ولا علم غيره. أَنا أَشاركهم في أَن مَنْ وهبهم الله تلك المنن ، وأقامهم مقام الدعاة إلى الله ؛ فالأجمل بهم أن يحصّلوا ما لابد منه من علوم اللسان ، ولكنى أَعتقد أَن صغير مواهبهم أَجل وأَعظم مما اكتسبه هذا المغرور بقشور العلم.
4- الوقوع في أكبر الكبائر حال الدعوة إلى ترك مكروه أو عمل مندوب : وقد تشتد حماقة الرجل منهم وغضبه على أمر هين - كترك العذبة ) - حتى يقع في أكبر الكبائر حال دعوته إلى ترك (مكروه ، أو عمل مندوب ، وهو لا يشعر ، وربما حكم بتحريم شيء وهو لا يميز بين معنى الحلال والحرام ، وقد يحكم بنجاسة شيء وهو لا يميز بين الأنواع الطاهرة والأنواع النجسة ، بل ولا يميز الفرق بين نوع صفة النجاسة ، والطهارة ، وكل ذلك من جهله بأسرار السنة ، ومن جهله بنفسه ، وجهله بقدر علمه. وقد كان البلاء منهم على المسلمين أَشد من بلاءِ الأَعداء على المسلمين ، فإِنهم شغلوا المسلمين بالوقيعة ، وملأُوا قلوبهم ضغائن ، وجعلوا الصغار يحقرون السلف الصالح والكبار يحقرون كبار أهل عصرهم.
5- مخالفة رسول الله في أخلاقه وسنته في الدعوة : مثال آخر : ما يحصل من بعض مِنْ نصبوا أَنفسهم للإرشاد ، أو انتسبوا للعلم : عند الأمر بالمعروف ، أو النهى عن المنكر من شدة ألفاظه في الأخلاق ، والغلظة في الطباع ، والسخف في القول : متذرعا بحجة أن هذا من الدين ، وأَن هذه نصيحة ، وأن هذه الطريقة الشرعية التي أمر الله بها ، ويجهلون أنهم وقعوا في كبائر لا تحصى منها: مخالفة رسول الله في أخلاقه ومخالفة سنته في الدعوة ، وتنفير عباد الله ، ووقوعهم في بغض الدين وبغض أهله ، وظنوا أنهم أحسنوا ، وربما كان الذي يدعون إليه من الأُمور المرغّب فيها خلاف الأولى ، أو كان الذي ينهون عنه أَيضا خلاف الأولى . فعجبا ، كيف يلقى الإنسان بنفسه في الهاوية وهو يظن أنه يحسن عملا ؟ وما ذلك إلا من جهله.
ومن الدعاة الجهلاء من يجلسون في وسط العامة فيذكرون اسم وليّ من أولياءَ الله ، ويبثون عنه الأقاصيص ،التي توهم أنه ينفع ويضر ، وأن من اتبعه يكثر ماله وولده ، وأَن من زار قبره تقضى حوائجه ويموت أعداؤه ، ويذكرون لهم من الكرامات ما هو حق وباطل ، حتى يرغب فيه الناس ، فيكون الضرر بذلك من جهتين : من جهة أَنهم يتبعون طريقه لعاجل فان ، فيكونون ممن يعبدون الله على حرف ، ومن جهة أخرى فإنهم يتبعونه لينتفعوا به من الجهة التي لا يمكنه أَن ينفع نفسه ولا غيره بها ؛ لأَن النافع هو الله ، ويُحرَمون النفع به من الجهة التي يَنفَع منها ، لأن الله أقامه سببا للنفع ،وهى جهة تلقى العلوم ، وفهم فقه القرآن الشريف ، وتزكية النفس ،وفهم أَسرار التوحيد ، وكشف حكم الأحكام ،والتجمل بعلوم اليقين: مما به السعادة الأبدية ، التي لا تُذكر الدنيا في جانبها بشئ ، إلا كما يُذكر العدم مع الوجود. وقد يحصل ضرر ثالث – بالإضافة إلى الضررين السابقين يقل عن هذين الضررين، وهو أَن يكون الرجل الذي يدعون إليه متوفى وليست له كتب علمية ينفع بها من يقتدي به ، فيحصل الضرر لمن اتبعه بحرمانه من طلب الرجل العالم الذي جعله الله نورا ، فيُحرم من الانتفاع بعلمه ، والاقتداء بعمله. وقد كثرت تلك الطوائف ، وعم الضرر بهم ، حتى صار أكثر العامة إذا اتبع طريقا فكثر ماله وولده : فرح ، واعتقد أَن هذا من إتباعه للطريق . وإن قل ماله : تشاءم ، وقال : هذا من الطريق ، كما حصل في عصر رسول الله ، من الذين أنزل الله في حقهم قوله تعالى : وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ( ).
كلنا – جماعة المسلمين – نعتقد أن الرجل العالم العامل إذ دعا إلى الله على بصيرة ، وأقام حجج الله للقلوب فاطمأنت ، وللنفوس فتزكت ، وللأبدان فنشطت : أكرام الله من اتبعه ، بمعنى قوله تعالى : وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ( ) . فإن الله تعالى يكرم من اتبع ، العالم العامل بأَن يشرح صدره ، وييسر أمره ، ويمنحه الصبر واليقين . لأن الرجل يدعو إلى التوحيد الخالص ، والأَعمال الواجبة والمسنونة ، ومكارم الأخلاق ، ويدعو لحسن المعاملة.
وأنوار التوحيد إذا أشرقت على قوم اطمأنت قلوبهم بربهم ، فَرَضُوْا عنه ، لكمال توحيدهم ، وصبروا لكمال إيمانهم. فالواجب على من دعته نفسه أَن يقوم داعيا إلى الله : أن يدعوها أولا هي إلى الله ، فإِن أَطاعته ؛ ألزمها أن يتعلم ما لابد منه من معرفة الطريق ، ويتحصل على ما لابد منه من الزاد والراحلة بالعلم والخلق والعمل ، فإذا أطاعت وحَصّلت : فليطالبها بالإخلاص ، والرحمة بجميع الناس ، فإن قبلت : بحث فإن علم برجل أعلم منه بالله ، وبأَحكامه ، وبأَيامه ، وأَحاط علما بسنن رسول الله : فَلْيَسْعَ إليه ، ولو بالصين، ليزداد علما ، ويكمل خلقا ، ويزكو نفسا ، ثم بعد ذلك يقوم فيدعو بالتي هي أَحسن.
وبعض من ينتسبون إلى العلم أو للطريق يجعلون العلم أو الطريق بابا من أبواب طلب الدنيا ، حتى تكون أَعمالهم الواجبة ليست لله ، ولكنها تصير تزيناً للتوسع في الدنيا. فعلى الذين منحهم الله النشاط للسياحة في الأَرض ، ووهب لهم لسان الحكمة : أَن يطهروا قلوبهم لله عند دعوة إخوانهم إلى الله عن أن يكون العمل لعرض يفنى ، أو غرض يزول ، ولْيتحققوا أَن هذا العمل الشريف هو عمل الرسل – صلوات الله وسلامه عليهم ، ولْيغاروا على قلوبهم وأَبدانهم أَن تستبدل برضوان الله وفردوسه الأَعلى ومعية النبيين والصديقين والشهداء: متاعاً يفنى وتبقى عقوبته ، وعرضا يزول وتبقى تبعته ، إِن هذا هو الخسران المبين. إن المرشد الذي جعل الله له نورا في قلبه ، وآتاه الله من لدنه علما ، ووهب له لسان الحكمة ، ومواهب المعرفة : لو أَن الناس قدموا له نفائس أَموالهم وقبلها منهم ؛ لكان ذلك قليلا في جانب علم سر من أَسرار كتاب الله، وفقه حكم من أحكام الله ، ومع ذلك فإِنه ينزه قلبه أَن يقبل من الناس ، أو يُقبل عليهم بقلبه لغير الله تعالى .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق