مدونة مراقى الصالحين: ورع الفاروق عمر

الأربعاء، 8 يونيو 2016

ورع الفاروق عمر

سيدنا عمر بن الخطاب رضى الله عنه لما توفىّ، قال سيدنا عبد الله بن مسعود: 
{ إِنِّي لأَحْسِبُ عُمَرَ قَدْ رُفِعَ مَعَهُ يَوْمَ مَاتَ تِسْعَةُ أَعْشَارِ الْعِلْمِ ، وَإِنِّي لأَحْسِبُ عَلْمَ عُمَرَ لَوْ وُضِعَ فِي كِفَّةِ الْمِيزَانِ ، وَعَلْمُ مَنْ بَعْدَهُ لَرَجَحَ عَلَيْهِ عَلْمُ عُمَرَ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ } (1)
وورد فى الإحياء أنه قيل لـه : أتقول ذلك وفينا جلة الصحابة فقال رضى الله عنه:
{ لم أرد علم الفتيا والأحكام إنما أريد العلم باللـه تعالى }
اسمعوا لورعه رضى الله عنه إذ يقول فى حال أهل العلم بالله تعالى أهل الورع رضوان الله عليهم:
{ تَرَكْنَا تِسْعَةَ أَعْشَارَ الْحَلالِ مَخَافَةَ الرِّبَا } (2) 
وخذوا مثالاً...سيدنا عمر رضى الله عنه كان خليفة للمسلمين وجاءه مسك و
عنبر من البحرين ، فأراد أن يوزعه على المسلمين، فقال:
{ إِنِّي وَجَدْتُ مَنْ يَقْسِمُ هَذَا الْمِسْكَ وَالْعَنْبَرَ حَتَّى أَقْسِمَهُ بَيْنَ
الْمُسْلِمِينَ فَقَالَتِ امْرَأَتُهُ عَاتِكَةُ بِنْتُ زَيْدٍ: هَلُمَّ أَزِنْ لَكَ فَإِنِّي جَيِّدَةُ الْوَزْنِ قَالَ: 
لا ، إِنِّي أَكْرَهُ أَنْ تُصِيبَ يَدُكِ فَتَقُولِينَ هَكَذَا عَلَى صَدْرِكِ بِمَا
أَصَابَتْ يَدَاكِ فَضْلا عَلَى الْمُسْلِمِينَ } (3)
وفى رواية إحياء علوم الدين أنه سكت عنها ، ثم أعاد القول فأعادت الجواب، فقال: لا أحببت أن تضعيه بكفة ثم تقولين فيها أثر الغبار فتمسحين بها عنقك فأصيب بذلك فضلاً على المسلمين ، إنه الورع .. وتعليم أساليب التعليم فى العصر الحديث ... وهو نفس النهج النبوى المبين كما رأينا فى تعليم سيد المرسلين لسيدنا الحسن ..
روت إمرأة تاجرة تعمل بالعطارة فى زمن عمر رضى الله عنه فقالت:
{ كان عمر رضى الله عنه يدفع إلى امرأته طيباً من طيب المسلمين لتبـيعه، فباعتني طيباً فجعلت تقوّم وتزيد وتنقص وتكسر بأسنانها، فتعلق بأصبعها شيء منه فقالت به هكذا بأصبعها، ثم مسحت به خمارها فدخل عمر رضى الله عنه فقال: ما هذه الرائحة فأخبرته فقال: طيب المسلمين تأخذينه، فانتزع الخمار من رأسها وأخذ جرّة من الماء فجعل يصب على الخمار ثم يدلكه في التراب ثم يشمه، ثم يصب الماء ثم يدلكه في التراب ويشمه، حتى لم يبق له ريح، قالت: ثم أتيتها مرة أخرى فلما وزنت علق منه شيء بأصبعها، فأدخلت أصبعها في فيها ثم مسحت به التراب }(4) 
قال العلماء ومافقد من المسلمين فى الميزان معفوٌ عنه، وليس فعل عمر بما يعيد للمسلمين ما فقد منهم ، ولا هو ببتنطع فى الدين ، وإنما مقصوده رضى الله عنه أن يعلم أهله والتجار والمسلمين من ورائهم درسا عمليا فى الورع والتحرز فى الحقوق. 
وصدقوا .. لأن هذا ما روته العطارة عن نتيجة الدرس الذى لقنه رضى الله عنه لزوجته وللعطارة نفسها فى بيعها وشرائها، ولنا من ورائهم ..
بل و استمر درس الورع 
يتدوال وينتقل من المعلمين إلى المتعلمين عبر الأيام والسنين، حتى طبقه فرد من ذريته، وعاه فنفذه وعلمه كما فعل عمر ... انظروا إلى سيدنا عمر بن عبد العزيز رضى الله عنه،لما أخرجوا مسكا من بيت المال، أغلق أنفه بيده حتى لا يشمه، فكلَّمه رجل من جلسائة متعجباً ومستكثرا:
{ مَا ضَرَّكَ إِنْ وَجَدْتَ رِيحَهُ قَالَ : وَهَلْ يُنْتَفَعُ مِنْ هَذَا إِلا بِرِيحِهِ " } (5)وفى رواية زيادة { فأكره أن أجد ريحه دون المسلمين فما زالت يده على أنفه حتى رفع }.
ما هذا .. إنه الورع .
هذا الورع هو الذى جعل سيدنا عمر بن الخطاب رضى الله عنه وهو على المنبر بالمدينة المنورة .. يرى سارية أمير الجيش ويناديه ... وبينهما آلاف الكيلو مترات، بل وسمع سارية نداءه وفقهه فى التو والحال .. وعمل بنصيحته وانتصر المسلمون ، وأنقلها لكم كما وردت فاسمعوا :
{ بَيْنَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَلَى الْمِنْبَرِ يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِذْ تَرَكَ الْخُطْبَةَ فَقَالَ : يَا سَارِيَةُ الْجَبَلَ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاثًا، وفى رواية قال : يَا سَارِيَةُ الْجَبَلَ لا يَرْعَى الْذِّئْبُ ِالْغَنَمِ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى خُطْبَتِهِ ( أى استمر فيها).
: فَقَالَ أُولَئِكَ النُّظَرَاءُ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صل الله عليه وسلم: لَقَدْ جُنَّ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ هُوَ فِي خُطْبَتِهِ إِذْ قَالَ : يَا سَارِيَةُ الْجَبَلَ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَكَانَ يَطْمَئِنُّ إِلَيْهِ فَقَالَ : أَشَدُّ مَا ألوَمَهُمْ عَلَيْكَ أَنَّكَ تَجْعَلُ عَلَى نَفْسِكَ لَهُمْ مَقَالا بَيْنَا أَنْتَ تَخْطُبُ إِذْ أَنْتَ تَصِيحُ: يَا سَارِيَةُ الْجَبَلَ أَيُّ شَيْءٍ هَذَا قَالَ : إِنِّي وَاللَّهِ مَا مَلَكْتُ ذَلِكَ رَأَيْتُهُمْ يُقَاتِلُونَ عِنْدَ جَبَلٍ يُؤْتَوْنَ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ فَلَمْ أَمْلِكْ أَنْ قُلْتُ : يَا سَارِيَةُ الْجَبَلَ لِيَلْحَقُوا بِالْجَبَلِ.:
فَلَبِثُوا إِلَى أَنْ جَاءَ الرَّسُولُ بِكِتَابِهِ ( من عند سارية) أَنَّ الْقَوْمَ لَحِقُونَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَقَتَلْنَاهُمْ مِنْ حِينِ صَلَّيْنَا الصُّبْحَ إِلَى حِينِ حَضَرَتِ الْجُمُعَةُ وَدَارَ حَاجِبُ الشَّمْسِ فَسَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي : يَا سَارِيَةُ الْجَبَل َ مَرَّتَيْنِ فَلَحِقْنَا بِالْجَبَلِ فَلَمْ نَزَلْ قَاهِرِينَ لِعَدُوِّنَا حَتَّى هَزَمَهُمُ اللَّهُ وَقَتَلَهُمْ }(6) : 
الله أكبر ..الله أكبر ... كيف رأى عمر ذلك بالورع ... بالورع إخوانى وأخواتى ... فالورع هو الذى به يكون الصديقون صديقين ... والأولياء والصالحون مكاشفين ... ويبلغوا به الدرجات العليا من اليقين ويحق لهم قول رب العالمين فى سورة يونس 
: لَهُمُ الْبُشْرَىٰ فِيالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ۚ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْز ُ الْعَظِيمُ 
فعندما تسمع عن رجلٍ ما يقرأ ما فى الصدور .. ، أو أنه يأتينا بعلم وهبى غير منشور ... فصَدِّق 
لكن ليس لأن هذا الرجل كان له قيام ليل أكثر منا أو صيام نهار فاق فيه: عنا لكن الأساس أنه كان فى ورعه أكثر منا، لأن الورع يُنَوِّل هذه الأمور، ففى الحديث الذى سبق : { كُنْ وَرِعًا تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ }(7):
(1) الْمُعْجَمُ الْكَبِيرُ لِلطَّبَرَانِيِّ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ 
(2)مصنف عبد الرزاق الصنعاني عن الشعبي قال عمر
(3)عن سعد بن لأبى وقاص، وروى قريبا منه فى جامع المسانيد والمراسيل، حديث 1286 عن إِسماعيل بن محمَّد بن سعد بن أَبي وَقَّاص، والزهد لأحمد بن حنبل رضى الله عنهم. 
(4)رواه سليمان التيمي عن نعيمة العطارة، إحياء علوم الدين . 
(5)الزُّهْدُ الْكَبِيرُ لِلْبَيْهَقِيِّ ثنا رَبَاحُ بْنُ عُبَيْدَةَ 
(6)دَلائِلُ النُّبُوَّةِ لِأَبِي نُعَيْمٍ الْأَصْبَهَانِيِّ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ 
(7)مسند الشاميين للطبرانى ،والورع للبيهقى، والآداب لإبن أبى الدنيا عن أبى هريرة رضى الله عنه
من كتاب الفتح العرفانى
لفضيلة الشيخ فوزى محمد أبوزيد
لتحميل الكتاب مجانا اضغط على الرابط

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق