الجنيد رحمه الله تعالى ، سيد القوم وإمامهم - كما وصفه القشيري - قال في هذا الموضوع : "من لم يحفظ القرآن ، ولم يكتب الحديث ، لا يقتدى به في هذا الأمر ، لأن علمنا هذا مقيد بأصول الكتاب والسنة .. أ.هـ .
وقال أيضا : "علمنا هذا مشيد بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، الطرق كلها مسدودة على الخلق ، إلا على من اقتفي أثر الرسول صلى الله عليه وسلم واتبع سنته ولزم طريقته .. أ.هـ.
وقال رحمه الله تعالى : " مذهبنا هذا مقيد بالأصول : بالكتاب والسنة ، فمن لم يحفظ الكتاب ، ويكتب الحديث ، ويتفقه ، لا يقتدى به" انتهى (1)
وقال الشيخ الشعراني رحمه الله تعالى في كتابه : "كشف الغمة" 1 : 10 : "كل طريق لم يمش فيه الشارع صلى الله عليه وسلم فهو ظلام ، ولا يكون أحد ممن مشى فيه على يقين من السلامة وعدم العطب" . وقال رحمه الله تعالى : دوروا مع الشرع كيف كان ، لا مع الكشف فلأنه يخطيء ، وينبغي إكثار مطالعة كتب الفقه ، عكس ماعليه المتصوفة الذين لاحت لهم بارقة من الطريق فمنعوا مطالعة الفقه ! وقالوا : إنه حجاب ! جهلا منهم!" (2)
التصوف بين مادحيه وقادحيه
"
ظلم التصوف الإسلامي في كثير من قراءات الناس له ، ربما بسبب المصطلح ، وربما بسبب انحراف بعض المنتسبين له مما أشاع عنه ، أنه وافد ليست الحياة الإسلامية بحاجة إليه ، فضلا عن أنه مبتدع ، تسبب في إبعاد ذويه عن الإسهام الحضاري وعن الارتباط بالأصول الشرعية ، وهذه الأسباب وغيرها - بصرف النظر عن صحتها أو صحة بعضها أو عدم صحته - تقرر حقيقة أن هذا الجزء من تراث المسلمين أصابه قسط كبير من الظلم ، لانغالي إذا قلنا لم يصب بمثله جزء آخر من تراث حضارتنا .
وقد عرف تاريخ الفكر الإسلامي اتجاهات لنقد التصوف بعضها من داخله لتصحيح المسار ، وبعضها من خارجه .
ذهب أهل هذا الأخير مذاهب ، أحدها : مَدَح حتى قَبِل الأخطاء ، وسوغها بالتأويل ، وثانيها : غض طرفه عن كل حسن في هذا التراث ، فلم ير فيه إلا كل خلل وفساد ، وانطلق من حالات فردية إلى حكم عام وموقف شامل ، وثالثها : توسط لكنه لم يكن على شهرة السابقين .
وقد عانى الفكر الصوفي من المذهبين الأولين (المادح والقادح) ، وحجبا جزءا من الحقيقة عن الناس ، الأمر الذي جعل كثيرا من العلماء والباحثين قديما وحديثا ينادون بضرورة التزام منهج وسط بين الرفض المطلق والقبول المطلق .
وتعددت أشكال نداءاتهم ، فمن قائل بضرورة المنهجية قبل الحكم والنقد ، ومن قائل بضرورة النظر إلى كل زوايا التصوف ، واعتبار كل مراحله عند التقسيم .
وقديماً تبنى هذه الدعوة علم ابن تيمية، فنادى بخطأ القبول المطلق والرفض المطلق ، وجعل الحكم هوى إن كان صادرا عن حب مطلق أو بغــض مطلق . ذلكم هــو ابن تيمية الــذي سار في هذا الأمر على درب سابقين له من العلماء الحنابلة .وإذا كان هناك اتفاق بين دعوة المعاصرين ودعوة ابن تيمية ومن سبقه ، فإن هناك فارقا أساسيا هو أن المعاصرين لم يقدموا تصورا كاملا للمنهج الذي ينبغي أن تكون عليه قراءة التصوف ، بل أشاروا إلى بعض النقاط بإيجاز وإجمال ، أما ابن تيمية فقد قدم تصورا أكثر تفصيلا عن المنهج في نقد التصوف ، بل وطبقه في النظر إلى مراحل التصوف ، والى المصطلح ، والى رجال التصوف ونحو هذا .
إن هذا التصور عند ابن تيمية مبثوث في شتى كتاباته عن التصوف ، وعن السلوك، الأمر الذي لم يجعله شهيرا من الدارسين ، وبخاصة أنه أشيع عن عداء للتصوف الكثير وهو مخالف للواقع ، كما سيأتي بيانه" .
ومن أصحاب الاتجاه السليم والنظرة الموضوعية إلى التصوف فضيلة الدكتور - يوسف القرضاوي، فيقول في كتابه ((فتاوى معاصرة)) (1 : 735-743) تحت عنوان :حقيقة الصوفية
جاء الإسلام بالتوازن في الحياة ، يعطي كل ناحية حقها ، ولكن الصوفية ظهروا في وقت غلب على المسلمين فيه الجانب المادي والجانب العقلي .
الجانب المادي ، نتج عن الترف الذي أغرق بعض الطبقات ، بعد اتساع الفتوحات ، وكثرة الأموال ، وازدهار الحياة الاقتصادية ، مما أورثت غلواً في الجانب المادي . مصحوباً بغلو آخر في الجانب العقلي ، أصبح الإيمان عبارة عن ((فلسفة)) و ((علم كلام)) ((وجدل)) ، لا يشبع للإنسان نهماً روحياً ، حتى الفقه أصبح إنما يعنى بظاهر الدين لا بباطنه ، وبأعمال الجوارح . لا بأعمال القلوب وبمادة العبادات لا بروحها ومن هنا ظهر هؤلاء ، الصوفية ليسدوا ذلك الفراغ ، الذي لم يستطع أن يشغله المتكلمون ولا أن يملأه الفقهاء ، وصار لدى كثير من الناس جوع روحي ، فلم يشبع هذا الجوع إلا الصوفية الذين عنوا بتطهير الباطن قبل الظاهر ، وبعلاج أمراض النفوس ، وإعطاء الأولية لأعمال القلوب ، وشغلوا أنفسهم بالتربية الروحية والأخلاقية ، وصرفوا إليها جل تفكيرهم واهتمامهم ونشاطهم . حتى قال بعضهم :
التصوف هو الخلق ، فمن زاد عليك في الخلق فقد زاد عليك في التصوف .
وكان أوائل الصوفية ملتزمين بالكتاب والسنة ، وقافين عند حدود الشرع ، مطاردين للبدع والانحرافات في الفكر والسلوك .
ولقد دخل على أيدي الصوفية المتبعين كثير من الناس في الإسلام ، وتاب على أيديهم أعداد لا تحصى من العصاة ، وخلفوا وراءهم ثروة من المعارف والتجارب الروحية لا ينكرها إلا مكابر ، أو متعصب عليهم .
غير أن آخرين منهم غلوا في بعض الجوانب ، وانحرفوا عن الطريق السوي ، وعرفت عن بعضهم أفكار غير إسلامية ، كقولهم بالحقيقة والشريعة ، فمن نظر إلى الخلق بعين الشريعة مقتهم ، ومن نظر إليهم بعين الحقيقة عذرهم .
فهذا النوع من الغلو ، ومثله الغلو في الناحية التربوية غلواً يضعف شخصية المريد كقولهم : إن المريد بين يدي شيخه كالميت بين يدي غاسله ، ومن قال لشيخه : لم ؟ لا يفلح . ومن اعترض انطرد .
هذه الاتجاهات قتلت نفسيات كثير من أبناء المسلمين ، فسرت فيهم روح جبرية سلبية.
ولكن كثيراً من أهل السنة والسلف قَّوم علوم الصوفية ، بالكتاب ، والسنة ، كما نبه على ذلك رجلا كابن القيم. فكتب عن التصوف كتاباً قيما ، هو كتاب (مدارج السالكين إلى منازل السائرين) ومدارج السالكين عبارة عن شرح لرسالة صوفية صغيرة اسمها : "منازل السائرين إلى مقامات : إياك نعبد وإياك نستعين)) لإسماعيل الهروى الحنبلي .
والحقيقة أن كل إنسان يؤخذ من كلامه ويترك ، والحكم هو النص المعصوم من كتاب الله ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم فنستطيع أن نأخذ من الصوفية الجوانب المشرقة ، كجانب الطاعة لله ، وجانب محبة الناس بعضهم لبعض ، ومعرفة عيوب النفس ، ومداخل الشيطان ، وعلاجها ، واهتمامهم بما يرقق القلوب ، ويذكر بالآخرة .
نستطيع أن نعرف عن هذا الكثير عن طريق بعض الصوفية كالإمام الغزالى مع الحذر من شطحاتهم ، وانحرافاتهم وغلوائهم ، ووزن ذلك بالكتاب والسنة ، وهذا لا يقدر عليه إلا أهل العلم وأهل المعرفة ". ( )
===============================
(1) "إغاثة اللهفان" للشيخ ابن القيم رحمه الله تعالى 1 : 125 .
(2) نقله ابن العماد الحنبلي في "شذرات الذهب" في ترجمة الشعراني 8 : 374 .
3) فتاوى معاصرة 1 : 735 – 738.
دعوة للإنصاف
وقال أيضا : "علمنا هذا مشيد بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، الطرق كلها مسدودة على الخلق ، إلا على من اقتفي أثر الرسول صلى الله عليه وسلم واتبع سنته ولزم طريقته .. أ.هـ.
وقال رحمه الله تعالى : " مذهبنا هذا مقيد بالأصول : بالكتاب والسنة ، فمن لم يحفظ الكتاب ، ويكتب الحديث ، ويتفقه ، لا يقتدى به" انتهى (1)
وقال الشيخ الشعراني رحمه الله تعالى في كتابه : "كشف الغمة" 1 : 10 : "كل طريق لم يمش فيه الشارع صلى الله عليه وسلم فهو ظلام ، ولا يكون أحد ممن مشى فيه على يقين من السلامة وعدم العطب" . وقال رحمه الله تعالى : دوروا مع الشرع كيف كان ، لا مع الكشف فلأنه يخطيء ، وينبغي إكثار مطالعة كتب الفقه ، عكس ماعليه المتصوفة الذين لاحت لهم بارقة من الطريق فمنعوا مطالعة الفقه ! وقالوا : إنه حجاب ! جهلا منهم!" (2)
التصوف بين مادحيه وقادحيه
"
ظلم التصوف الإسلامي في كثير من قراءات الناس له ، ربما بسبب المصطلح ، وربما بسبب انحراف بعض المنتسبين له مما أشاع عنه ، أنه وافد ليست الحياة الإسلامية بحاجة إليه ، فضلا عن أنه مبتدع ، تسبب في إبعاد ذويه عن الإسهام الحضاري وعن الارتباط بالأصول الشرعية ، وهذه الأسباب وغيرها - بصرف النظر عن صحتها أو صحة بعضها أو عدم صحته - تقرر حقيقة أن هذا الجزء من تراث المسلمين أصابه قسط كبير من الظلم ، لانغالي إذا قلنا لم يصب بمثله جزء آخر من تراث حضارتنا .
وقد عرف تاريخ الفكر الإسلامي اتجاهات لنقد التصوف بعضها من داخله لتصحيح المسار ، وبعضها من خارجه .
ذهب أهل هذا الأخير مذاهب ، أحدها : مَدَح حتى قَبِل الأخطاء ، وسوغها بالتأويل ، وثانيها : غض طرفه عن كل حسن في هذا التراث ، فلم ير فيه إلا كل خلل وفساد ، وانطلق من حالات فردية إلى حكم عام وموقف شامل ، وثالثها : توسط لكنه لم يكن على شهرة السابقين .
وقد عانى الفكر الصوفي من المذهبين الأولين (المادح والقادح) ، وحجبا جزءا من الحقيقة عن الناس ، الأمر الذي جعل كثيرا من العلماء والباحثين قديما وحديثا ينادون بضرورة التزام منهج وسط بين الرفض المطلق والقبول المطلق .
وتعددت أشكال نداءاتهم ، فمن قائل بضرورة المنهجية قبل الحكم والنقد ، ومن قائل بضرورة النظر إلى كل زوايا التصوف ، واعتبار كل مراحله عند التقسيم .
وقديماً تبنى هذه الدعوة علم ابن تيمية، فنادى بخطأ القبول المطلق والرفض المطلق ، وجعل الحكم هوى إن كان صادرا عن حب مطلق أو بغــض مطلق . ذلكم هــو ابن تيمية الــذي سار في هذا الأمر على درب سابقين له من العلماء الحنابلة .وإذا كان هناك اتفاق بين دعوة المعاصرين ودعوة ابن تيمية ومن سبقه ، فإن هناك فارقا أساسيا هو أن المعاصرين لم يقدموا تصورا كاملا للمنهج الذي ينبغي أن تكون عليه قراءة التصوف ، بل أشاروا إلى بعض النقاط بإيجاز وإجمال ، أما ابن تيمية فقد قدم تصورا أكثر تفصيلا عن المنهج في نقد التصوف ، بل وطبقه في النظر إلى مراحل التصوف ، والى المصطلح ، والى رجال التصوف ونحو هذا .
إن هذا التصور عند ابن تيمية مبثوث في شتى كتاباته عن التصوف ، وعن السلوك، الأمر الذي لم يجعله شهيرا من الدارسين ، وبخاصة أنه أشيع عن عداء للتصوف الكثير وهو مخالف للواقع ، كما سيأتي بيانه" .
ومن أصحاب الاتجاه السليم والنظرة الموضوعية إلى التصوف فضيلة الدكتور - يوسف القرضاوي، فيقول في كتابه ((فتاوى معاصرة)) (1 : 735-743) تحت عنوان :حقيقة الصوفية
جاء الإسلام بالتوازن في الحياة ، يعطي كل ناحية حقها ، ولكن الصوفية ظهروا في وقت غلب على المسلمين فيه الجانب المادي والجانب العقلي .
الجانب المادي ، نتج عن الترف الذي أغرق بعض الطبقات ، بعد اتساع الفتوحات ، وكثرة الأموال ، وازدهار الحياة الاقتصادية ، مما أورثت غلواً في الجانب المادي . مصحوباً بغلو آخر في الجانب العقلي ، أصبح الإيمان عبارة عن ((فلسفة)) و ((علم كلام)) ((وجدل)) ، لا يشبع للإنسان نهماً روحياً ، حتى الفقه أصبح إنما يعنى بظاهر الدين لا بباطنه ، وبأعمال الجوارح . لا بأعمال القلوب وبمادة العبادات لا بروحها ومن هنا ظهر هؤلاء ، الصوفية ليسدوا ذلك الفراغ ، الذي لم يستطع أن يشغله المتكلمون ولا أن يملأه الفقهاء ، وصار لدى كثير من الناس جوع روحي ، فلم يشبع هذا الجوع إلا الصوفية الذين عنوا بتطهير الباطن قبل الظاهر ، وبعلاج أمراض النفوس ، وإعطاء الأولية لأعمال القلوب ، وشغلوا أنفسهم بالتربية الروحية والأخلاقية ، وصرفوا إليها جل تفكيرهم واهتمامهم ونشاطهم . حتى قال بعضهم :
التصوف هو الخلق ، فمن زاد عليك في الخلق فقد زاد عليك في التصوف .
وكان أوائل الصوفية ملتزمين بالكتاب والسنة ، وقافين عند حدود الشرع ، مطاردين للبدع والانحرافات في الفكر والسلوك .
ولقد دخل على أيدي الصوفية المتبعين كثير من الناس في الإسلام ، وتاب على أيديهم أعداد لا تحصى من العصاة ، وخلفوا وراءهم ثروة من المعارف والتجارب الروحية لا ينكرها إلا مكابر ، أو متعصب عليهم .
غير أن آخرين منهم غلوا في بعض الجوانب ، وانحرفوا عن الطريق السوي ، وعرفت عن بعضهم أفكار غير إسلامية ، كقولهم بالحقيقة والشريعة ، فمن نظر إلى الخلق بعين الشريعة مقتهم ، ومن نظر إليهم بعين الحقيقة عذرهم .
فهذا النوع من الغلو ، ومثله الغلو في الناحية التربوية غلواً يضعف شخصية المريد كقولهم : إن المريد بين يدي شيخه كالميت بين يدي غاسله ، ومن قال لشيخه : لم ؟ لا يفلح . ومن اعترض انطرد .
هذه الاتجاهات قتلت نفسيات كثير من أبناء المسلمين ، فسرت فيهم روح جبرية سلبية.
ولكن كثيراً من أهل السنة والسلف قَّوم علوم الصوفية ، بالكتاب ، والسنة ، كما نبه على ذلك رجلا كابن القيم. فكتب عن التصوف كتاباً قيما ، هو كتاب (مدارج السالكين إلى منازل السائرين) ومدارج السالكين عبارة عن شرح لرسالة صوفية صغيرة اسمها : "منازل السائرين إلى مقامات : إياك نعبد وإياك نستعين)) لإسماعيل الهروى الحنبلي .
والحقيقة أن كل إنسان يؤخذ من كلامه ويترك ، والحكم هو النص المعصوم من كتاب الله ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم فنستطيع أن نأخذ من الصوفية الجوانب المشرقة ، كجانب الطاعة لله ، وجانب محبة الناس بعضهم لبعض ، ومعرفة عيوب النفس ، ومداخل الشيطان ، وعلاجها ، واهتمامهم بما يرقق القلوب ، ويذكر بالآخرة .
نستطيع أن نعرف عن هذا الكثير عن طريق بعض الصوفية كالإمام الغزالى مع الحذر من شطحاتهم ، وانحرافاتهم وغلوائهم ، ووزن ذلك بالكتاب والسنة ، وهذا لا يقدر عليه إلا أهل العلم وأهل المعرفة ". ( )
===============================
(1) "إغاثة اللهفان" للشيخ ابن القيم رحمه الله تعالى 1 : 125 .
(2) نقله ابن العماد الحنبلي في "شذرات الذهب" في ترجمة الشعراني 8 : 374 .
3) فتاوى معاصرة 1 : 735 – 738.
دعوة للإنصاف
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق