تأليف وإعداد : ناجح ابراهـــــيم عبدالله *و علي محمد علي الشريف
الباب الأول : الغلو في الدين وأسبابه ومظاهره *.لفصل الأول : حكمة تحريم الغلو في الدين .
يقول المؤلفان في المقدمة ، كمدخل إلى الموضوع : لم تعان أمة الاسلام من آفة نزلت بها مثل معاناتها مع آفة تكفير المسلمين التي عشعشت في عقول نفر من ابنائها ، وجعلتهم يكفرون المسلمين بغير مقتضى شرعي .
ومن ثم أهدروا دماءهم واستحلو أموالهم ، دون أن يكون معهم دليل من الشرع ، أو حجة من الدين أو برهان من أقوال السلف ، ولم يكونوا في الوقت نفسه مؤهلين للخوض في هذه اللجة العميقة ، والسباحة في هذا البحر العميق الذي لا يجيد السباحة فيه سوى العلماء التقات الأثبات الصادقين الذين تسلحوا بالعلم وتجردوا عن الهوى . ص(3)
بداية ماهو الغلو؟
في اللغة هو الزيادة عن الحد ، وشرعا هو مجاوزة الحد المطلوب شرعاً من العبد إلى ماهو أبعد منه فلا يكتفى بطلب الشارع ، بل يشعر بأن ماطلبه الشارع قليل ولا يكفي فيغالي ويزيد من عنده على ما أمر به الشارع ، اعتقادا بان ذلك محبوب شرعا ، وهذا ايضا هو تعريف التشدد والتنطع والتطرف . ص (19).
وفي حكمة تحريم الغلو في الدين يسـوق المؤلفان عدة أسـباب في ذلك منها : أن الغلو منفر لا تحتمله طبيعة البشر ولا تصبر عليه ، وان صبرت عليه وتحملته فئة فان الغالبية لا تقوى على ذلك والدليل على ذلك حديث جابر بن عبدالله الانصاري لما غضب رسول الله (ص) من معاذ حين صلى بالناس فأطال حتى شكاه أحدهم للنبي (ص) فقال له : ( أفتان أنت يا معاذ؟ ) وكررها ثلاثاً.
وقوله (ص) لمعاذ وأبي موسى لما بعثهما إلى اليمن ( يسرا ولا تعسرا وبشرا ولا تنفرا وتطاوعا ولا تختلفا) وقول عمر رضى الله عنه : ( لا تبغضوا الله الى عباده فيكون أحدكم إماما فيطول على القوم الصلاة حتى يبغض إليهم ماهم فيه ) .
كما أن الغلو قصير العمر ، والانسان ملول وطاقته محدودة نفسيا وبدنيا ، وربما يقوده الغلو إلى السأم او ينتقل إلى الافراط والتفريط ومن التشــدد الي التســيب ولذا قال رسـول الله (ص) : ( ان المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى ) وقوله (ص) : (يا أيها الناس عليكم من الأعمـــال ما تطيقون ، فان الله لا يمل حتى تملوا وان أحب الأعمال الى الله ما دووم عليه وان قل ) وحديث ابوهريره رضى الله عنه قال : قال رسول الله (ص) : ( ان الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه ، فسددوا وقاربوا وأبشروا وأستعينوا بالغدوة والروحة وشئ من الدلجة ) .
والغلو في الدين لا يخلو من جور على حقوق أخرى يجب أن تراعى وواجبات يجب أن تؤدى وما أصدق ما قاله الحكماء: ( ما رايت اسرافا الا وبجانبه حق مضيع ) وقال رســـول الله (ص) لعبدالله بن عمر حين بلغه انهماكه في العبادة انهماكا أنساه حق أهله عليه ، قال : ( ياعبــــدالله ألم أخبر أنك تصــوم النهار وتقوم الليــــل ) فقال : قلت بلى يارسول الله ، فقال (ص) : ( فلا تفعل ، صم وأفطر وقم ونم ، فإن لجسدك عليك حقا ، وإن لعينك عليك حقا ، وإن لزوجك عليك حقا ، وإن لزورك عليك حقا) ص (23).
الفصل الثاني : من مظاهر الغلو في الدين .
بعد أن بين المؤلفان حكمة تحريم الغلو في الدين فانهما يشيران الى مظاهرة وهي:
1- التعصب للرأي وعدم الاعتراف بالرأي الآخر: في الأمور الاجتهادية والأمور المحتملة ، وكثيرا ما يجعل الأمور الاجتهادية أمورا مقطوعة ويقينية ليس فيها الا قول واحد وهو قوله ( ولا رأي الا رأيه) ص (27) .
ويقينا أن هناك من يحاول ان يفرض رأيه بالقوة ، ويزداد الأمر خطورة حين يراد فرض الرأي على الآخرين بالعصا الغليظة ، وهنا قد لا تكون العصا الغليظة من حديد أو خشب فهناك الاتهام بالابتداع او بالاستهتار بالدين او بالكفر والمروق ، ان هذا الارهاب الفكري اشد تخويفا وتهديدا من الارهاب الحسي) ص (28).
2- إلزام جمهور الناس بما لم يلزمهم الله به:
يقول المؤلفان : ( ومن مظاهر الغلو الديني التزام التشدد مع قيام موجبات التيسير والزام الآخرين به حيث لم يلزمهم الله به ، فلا ينبغي لمسلم ان يرفض التيسير في وقت الحرج وأن يرفض الرخصة التي رخصها الله ويلزم جانب التشدد ) ص(28).
والله تعالى يقول : ( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ) وعائشة رضى الله عنها تقول : ( ماخير رسول الله (ص) بين أمرين الا اختار أيسرهما ما لم يكن أثما ) ويذكر المؤلفان أن من التشدد على الناس محاسبتهم على النوافل والسنن كأنها فرائض، وعلى المكروهات وكأنها محرمات والمفروض الا تلزم الناس الا بما الزمهم الله تعالى به جزما وما زاد على ذلك فهم مخيرون فيه إن شاء وا فعلوا وإن شاءوا تركوا ، ويشير المؤلفان في هذا السياق إلى حديث طلحة بن عبيدالله في الصحيح في قصة ذلك الاعرابي الذي سأل النبي (ص) عما عليه من فرائض فأخبره بالصلوات الخمس وبالزكاة ورمضان ، فقال هل على غيرها ؟ فقال : لا . إلا ان تطوع ، فلما أدبر الرجل قال : والله لا أزيد على هذا ولا أنقص ، فقال النبي (ص) : ( افلح إن صدق ، أو دخل الجنة إن صدق ) ص (31) .
3- التشدد في غير موضعه :
ولما كان التشدد أحد أهم مظاهر الغلو في الدين ، فإنه يكون أعظم اذا كان في غير زمانه ومكانه ، كأن يكون مع قوم حديثي العهد بالاسلام أو حديثي عهد توبة ، أو في غير دار الاسلام وبلاده الاصلية ، فهؤلاء ينبغي التساهل معهم في المسائل الفرعية والأمور الخلافية ، والتركيز معهم على الكليات قبل الجزئيات وتصحيح عقائدهم أولاً ، كما جاء في حديث رسول الله (ص) لمعاذ بن جبل لما أرسلة إلى اليمن : ( انك تأتي قوما من أهل الكتاب . .) ص (31).
4- الغلظة والخشونة :
يقول المؤلفان ان من مظاهر الغلو والتشدد في الدين الغلظة في التعامل والخشونة في الأسلوب والفظاظة في الدعوة خلافا لأمر الله ورسوله فقد قال تعالى : ( فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك ) وقال الرسول (ص) ان الله رفيق يجب الرفق في الأمر كله ) وفي تحليل المؤلفان لموقف الشباب من الناس في هذا الشأن يقولان : ( وللأسف الشديد نجد بعض شباب الحركات الاسلامية يتحاورون ويتعاملون بالغلظة مع الناس ، لا يفرقون في ذلك بين كبير وصغير ، ولا بين من له حرمه خاصة كالأب والأم ومن ليس كذلك ولا بين من له حق التوقير والتكريم كالعالم والفقيه والمعلم والمربي ومن ليس كذلك ، ولا يفرقون بين من هو معذور ومن ليس كذلك ، ومن هو جاهل ومن يعادي الاسلام عن عمد وعلم وبصيرة ) ص (34).
5- سوء الظن بالناس :
ومن مظاهر الغلو والتشدد ولوازمه سوء الظن بالآخرين ، فالأصل عند المتشدد هو الاتهام ، والاصل في الاتهام الادانة خلافا لما تقرره الشرائع والقوانين : ( ان المتهم برئ حتى تثبت إدانته ) ان المتشددين يرجحون احتمال الشر على احتمال الخير ، ويعتبرون من يخالفهم متهم في دينه أو الابتداع ، ويقول المؤلفان فوق ذلك : (ولا يقتصر سوء الظن عن هؤلاء على العامة بل يتعدى الى الخاصة وخاصة الخاصة ، فاذا أفتي فقيه بفتوى فيها تيسير على خلق الله ورفع الحرج عنهم فهو في نظرهم متهاون في الدين ، ولم يقف الاتهام عند الاحياء ، بل انتقل الى الأموات الذين لا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم ، كأئمة المذاهب المتبعة ، فهم على مالهم من فضل ومكانة لدى الأمة في كافة عصورها لم يسلموا من ألسنتهم وسوء ظنهم ، ان ولع من يكفرون المسلمين بالهدم لا بالبناء ولع قديم وغرامهم بانتقاد غيرهم وتزكية أنفسهم أمر معروف ، والله سبحانه وتعالى يقول : (فلا تزكوا أنفســـكم هو أعلم بمن أتقى ) ص(35). بل أن رسول الله (ص) يقول : ( اياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ) ص ( 36).
ويشير المؤلفان الى ان المتشددين لا يرون الا المثالب ولا يعجبهم احد ولا ينظرون الى الحسنات وهذه نظرة غير عادلة وانحراف عن الطريق السليم فالله يقول : ( يا ايها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنئان قوم على الا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله ان الله خبير بما تعملون ) . وقال تعالى : ( ياايها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء ولو على انفسكم أو الوالدين والأقربين ان يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى ان تعدلوا وان تلوا أو تعرضوا فان الله كان بما تعملون خبيرا ) .
ويرى المؤلفان انه يجب على المسلم العدل والانصاف ويزن الناس بميزان الشرع والوسطية ولا ينبغي له ان يحقر أخاه المسلم ، فقد قال الرسول (ص) : ( بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم ) ص (38) .
6- النظرة المثالية للمجتمع :
يقول المؤلفان ان من مظاهر الغلو ان ينظر المرء الى المجتمع وأفراده نظرة مثالية ، وانه ينبغي ان يكون خاليا من المعاصي ويسوده الحب والمودة والطاعة ، وهذه نظرة مثالية وغلو في التصور وبعد عن الواقع ، وقد كانت المعاصي والذنوب في كل الأمم وفي اتباع الرسل فهي فيمن دونهم من باب أولى ، وان كل ابن آدم خطاء كما قال رسول الله (ص) : ( ولو لم يذنب البشر لخلق الله بشرا يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم ) كما ورد في الحديث . ص (40) .
وقال تعالى : ( وخلق الانسان ضعيفا ) ثم يستعرض المؤلفان مجموعة من الاحاديث التي دلت على وقوع بعض المعاصي والذنوب في عهد الصحابة رضى الله عنهم وذلك لتبيان ان خير القرون هو قرن الرسول (ص) لم يكن خاليا من المعاصي سواء كانت من الكبائر أم من الصغائر ، وكذلك لتبيان بشرية الصحابة وان في عهدهم من قتل وسرق وزنى وشرب الخمر ، كما يدل ذلك على ان حدوث المعاصي والذنوب في القرون التالية اكبر ولا يخرجها ذلك عن الاسلام ، ويقولون انه لا يجوز لاحد ان يصفها بانها امة قد ارتدت او أنها عصر جاهلية كجاهلية ما قبل الاسلام . ص (41) .
ويأتي المؤلفان الى عصرنا الحديث ويقولان ان ما وقع لطائفة الخوارج قديما وقع لجماعة ( التكفير والهجرة ) حديثا فهم يكفرون كل من ارتكب معصية ويكفرون الحكام والمحكومين والعلماء والناس وكل من خالفهم بل انهم يكفرون كل من قبل فكرهم ولم يدخل في جماعتهم ويبايع امامهم ، ودخل في جماعتهم تم ترائ له لسبب أو لآخر أن يتركها .
فهو مرتد حلال الدم ، وهكذا أسرف هؤلاء في التكفير ، فكفروا الناس أحياءً وأمواتا ، وقد حذر الرسول (ص) من الاتهام بالكفر ، ففي الحديث الصحيح ( من قال لأخيه : ياكافر فقد باء بها أحدهما ) أي فيما لم يكن الآخر كافراً بيقين فقد ترد التهمة على من قالها ويبوء بها فهذا خطر جسيم ) ص (52).
7- من أسباب الغلو في الدين :
يرى المؤلفان ان من اسباب الغلو في الدين التالي :
أ- ضعف البصيرة بحقيقة الدين.
ب- ضعف البصيرة بالواقع .
إن ضعف البصيرة بحقيقة الدين المقصود به هنا هو نصف العلم الذي يظن صاحبه انه دخل به في زمرة العلماء وهو يجهل الكثير والكثير ، ولا يربط الجزئيات بالكليات ولا يرد المتشابهات إلى المحكمات . وقال النبي (ص) في ذلك : ( ان الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد ، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى اذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤوساء جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا واضلوا ) .
ومن مظاهر الجهل :
1- الاتجاه الظاهري في فهم النصوص : ويقول المؤلفان ان بعض الشباب يتمسكون بحرفية النص دون التغلغل الى فهم فحواها ومعرفة مقاصدها فهم لا يعرفون القياس ولا يستخدمونه ولا ينظرون الى العلة والحكمة من وراء التشريع ويضربان على ذلك مثلا ، فهم البعض لما ورد في حديث الرسول (ص) من نهى ان يسافر بالمصحف الى أرض الكفار أو أرض العدو ، والناظر في علة هذا المنع يتبين له ان النبي (ص) لم ينه عن ذلك إلا مخافة ان يستهين الكفار بالمصحف ، وحين تنتفى العلة ينتقى الحكم ، وكذلك مثال نهى الرسول (ص) المسافر أن يطرف أهله ليلاً . ص ( 58).
2- الإنشغال بالمعارك الجانبية عن القضايا الكبرى : ومن دلائل عدم الرسوخ في العلم ومظاهر ضعف البصيرة في الدين اشتغال البعض من هؤلاء بكثير من المسائل الجزئية والأمور الفرعية عن القضايا الكبرى التي تتعلق بوجود الأمة الاسلامية وهويتها ومصيرها ، فنرى كثير منهم يقيم الدنيا ولا يقعدها من أجل مسائل فرعية اختلف فيها العلماء سلفا وخلفا ولا مصير الى اتفاقهم فيها لانها من المسائل الاجتهادية الفرعية التي تتفاوت فيها الأفهام وتتعارض فيها الأدلة ، ويضرب المؤلفان أمثلة على ذلك مثل وضع اليدين في الصلاة ، وهل توضع على الصدر أم تحت السرة أم تسدل الى الجانبين ، والاختلاف فيها لا يمثل كبير اختلاف ولا يجوز تضييع الجهد عليها وترك ما هو اعظم وأكبر . ص (61) .
3- الاسراف في التحريم ( بغير دليل) : ومن دلائل عدم الرسوخ في فقه الدين الميل دائما الى التضييق والتشديد والاسراف في القول بالتحريم مع تحذير القرآن الكريم والسنة والسلف من ذلك ، فقد قال تعالى : ( ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب ، هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب ، ان الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون ) . وكان السلف لا يطلقون الحرام الا ما علم تحريمه جزما ، فاذا لم يجزم بتحريمه قالوا : ( نكره كذا او لا نراه أو نحو ذلك من العبارات ولا يصرحون بالتحريم ) والمتشددون يجنحون الى التحريم دائما مع وجود الكراهة او يجنحون الى التشدد والتضييق مع وجود التيسير .
4- إتباع المتشابهات وترك المحكمات : المتشابه هو ماكان محتمل المعنى وغير منضبط المدلول ، والمحكم هو البين المعنى الواضح الدلاله المحدد المفهوم ، يقول المؤلفان ان غلاة اليوم يعتمدون على المتشابهات في تكفير الأمة واستحلال دمائها ولو ردوا المتشابه الى المحكم لحكموا بالعدل والحق.
5- عدم التعلم على أيدي العلماء : ومن أسباب ضعف البصيرة عند البعض أن الواحد منهم لم يتلق العلم من أهله وشيوخه المتخصصين بمعرفته ، والمؤلفان يشيران بذلك الى اعتماد البعض على بضاعة الكتب والصحف والقراءة من غير المصادر والاصول الشرعية مما يجعلهم يسيئون الفهم ويستبطون احكامهم من غير أهل العلم والعلماء الثقات .
2- ضعف البصيرة بالواقع والحياة والتاريخ وسنن الكون :
إن أهم أسباب الغلو في الدين بعد ضعف البصيرة فيه ، هو عدم الوعي بالواقع والحياة ( فتجد أحدهم يريد ما لا يكون ويطلب مالا يوجد ويتخيل ما لا يقع ويفهم الوقائع على غير حقيقتها ويفسرها وفقا لأوهام رسخت في رأسه لا أساس لها من سنن الله في خلقه ولا من احكامه في شرعه ، وهو يريد ان يغير المجتمع كله ، افكاره ومشاعره وتقاليده واخلاقه وانظمته الاجتماعية والسياسية والاقتصادية بوسائل واهية واساليب خيالية . ص (65).
إن معرفة التاريخ والوعي بالواقع لا يعني القراءة السردية ، بل الوعي والعبرة والنفاذ الى سنن الله فيها يقول الله تعالى : ( أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو أذان يسمعون بها فإنها لا تعمي الأبصار ولكن تعمي القلوب التي في الصدور ) فإن التاريخ هو مخزن العبر ومعلم الأمم ، فكما أن الفرد يتعلم من احداث أمة الغد ، فان الأمة ايضا تأخذ من ماضيها لحاضرها ، وتستفيد من صوابها وخطئها ومن انتصاراتها وهزائمها . ص(66) .
الفصل الرابع : الاسلام بين الغلو والتقصير .
يتسائل المؤلفان قبل نهاية الباب الأول عن قضية المسلمين الثانية ما يرونها وهي التقصير من جانب المسلمين الذي يتجلى في تفريط المسلمين في دينهم وضياع مقدساتهم وتنازعهم على الجاه والسلطان . ويقولان : ( ان الغلو والتقصير وجهان لعملة واحدة ، والافراط والتفريط صورتان لشئ واحد ، وكلاهما خطر على الاسلام ، وكلاهما ضار بالدين ، فالدين وسط بين الافراط والتفريط والغلو والتقصير : ( وكذلك جعلناكم أمة وسطا ) ص. (75) .
يؤكد المؤلفان هذه الوسطية في السطورالتالية : ( وعلى كل من يريد أن ينهج منهج الاسلام ويقتفى صراطه المستقيم فعلية أن يسلك سلوكهم يقتفى آثار أهل السنة والجماعة ، وعلى مسلمي اليوم ان يقتفوا آثار السلف الصالح الذين نهجوا منهج الحق وتشربوا وسطية الاسلام وعدله اقتفوا صراطه المستقيم ، فلم يطغوا في الميزان ولم يخسروا فيه ، ولكنهم اقاموا الوزن بالقسط والحق ) ص ( 77).
فعلى المسلم أن يجمع خيري الدنيا والآخرة وصلاحهما ويتخذ أسباب الدنيا بحوارحه ويتوكل على الله بقلبه ، فالتوكل عمل القلب واتخاذ الأسباب عمل الجوارح ولا تعارض بينهما وان يكون وسطا بين المقدسين للعقل الذين يقدمونه على النقل الصحيح ان كان هناك تعارض بينهما ومن المغيبين للعقل تماما ولو كان في فهم النص وشرحه وتوضيحه وبيان ما غمض منه والوقوف على حكمةالله الخفية فيه ، فللنص الصحيح القاطع مكانه الصحيح المقدم على العقل وللعقل مكانه السليم في فهم النص وشرحه واستنباط حكمته وعلته مع ان العقل السليم السديد لا يتعارض ابدا مع النص الصحيح وان يكون وسطا بين الذين يغفلون مقاصد الشريعة الكلية بدعوى مراعاة النصوص ) ص( 78)
ويختتم المؤلفان هذا الباب بقولهما : ( ان الدين يضيع بين غلو المغالين وتقصير المقصرين ، وخذ بهدى نبيك الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم في كل وقت وحين ) .
الباب الثاني : بدعة التكفير والرد عليها :
الفصل الأول : الغلو في تكفير عصاه المسلمين :
يتحدث المؤلفان عن الافراط والتفريط ويحثان المسلمين على انتهاج المنهج الوسطي وان لا ينظر المسلم للناس بعيدا عن هذا المنهج ولا يتجاوز حدود الشرع والدين في حكمه عليهم ، والحديث هنا عن بعض نفر قليل ينتسب الى الحركة الاسلامية وهي منهم براء ، غالوا وتشددوا بغير حق في الحكم على الناس فأخرجوا اهل الاسلام من الملة وحكموا عليهم بالكفر نتيجة لشبهة أو هوى أو تقليد لضال مضل أو لغير ذلك من الأسباب ) ص. (90) .
المبحث الأول : الآثار السلبية للغلو في تكفير عصاة المسلمين .
المطلب الأول : المفاسد المترتبة على تكفير المسلمين :
يرى المؤلفان أن من يحكم على مسلم بالكفر بغير حق يقع في بعض الأمور منها :
أولاً : إن من يحكم على مسلم بالكفر يقع تحت الوعيد الشديد لمن نسب مسلماً إلى الكفر ، فقد قال رسول الله صلى الله عليه و سلم :إذا قال الرجل لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما فإن كان كما قال و الا رجعت إليه . و في رواية عن ثابت بن الضحاك :" و من رمى مؤمناً بكفر فهو كقتله ". و في رواية عنه :" و من قذف مؤمناً بكفر فهو كقاتله ".
ثانياً : ان تكفير المسلم بغير حق إهدار لقيمة العدل الذي يستوجب في أدنى صوره أن يكون من يحكم بالتكفير مؤهلاً لذلك وإن يتاح لمن ينسب إلى الكفر حق الدفاع الشرعي عن النفس و رد المظالم .
ثالثاً : إن تكفير المسلم يؤدي إلى تمزيق المجتمعات وبذر الخلاف بين الناس لما يترتب على ذلك من حل الدماء والأموال والتفريق بين الزوجين وقطع ما بينه وبين المسلمين في الإرث والغسل عند الموت والصلاة والدفن .
رابعاً : تكفير المسلمين يثير الفوضى في المجتمع ويفتح الباب أمام الجهال ليعيثوا فساداً بين الناس .
خامساً : الحكم على بعض عصاة المسلمين بالكفر دون وجه حق يعني إغلاق باب الرجاء وفتح باب الياس والقنوط وربما التمادي في المعصية .
المطلب الثاني : أصل بدعة الكفر :
يرجع المؤلفان أصل بدعة التكفير الى الخوارج و ما نتج عنها في فجر الاسلام وما تبع ذلك من مآسي كثيرة ويستشهدان بقول الشيخ القرضاوي: " وهذا ما وقع فيه الخوارج في فجر الاسلام والذين كانوا من أشد الناس تمسكاً بالشعائر التعبدية صياماً وقياماً وتلاوة القرآن ولكنهم أتوا من فساد الفكر لا من فساد الضمير وزين لهم سوء عملهم فرأوه حسناً وضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً وقد وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم :"يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم " و ذكر علامتهم " يقتلون أهل الاسلام و يدعون أهل الأوثان " ص 101 .
المبحث الثاني : الرد على من يكفر عصاة المسلمين :
لقد حذر الني صلى الله عليه و سلم من الاتهام بالكفر :" من قال لأخيه يا كافر ، فقد باء بها أحدهما وقد صح من حديث أسامة بن زيد أن من قال : لا اله الا الله فقد دخل الاسلام و عصمت دمه وماله ، وإن من قالها خوفاً أو تعوذاً من السيف فحسابه على الله و لنا الظاهر و لهذا أنكر النبي صلى الله عليه وسلم غاية الإنكار على أسامة حين قتل الرجل في المعركة بعد أن نطق بالشهادة و قال : أقتلته بعد أن قال لا إله إلا الله ؟ قال : إنما قالها تعوذاً من السيف ، قال : هل شققت قلبه ؟ ما تصنع ب" لا إله الا الله " قال أسامة : فما زال يكررها حتى تمنيت أني أسلمت يومئذ . ص102.
ويأتي المؤلفان إلى توضيح بعض المصطلحات وذلك لأن ما دفع المغالين في تكفير الناس هو الخلط في فهمها الايمان.
الايمان في اللغة التصديق واصطلاحاً عند أهل السنة والجماعة قول باللسان وتصديق الجنان وعمل بالأركان . ويرى بعض الحنفية أنه التصديق وأكثر الحنفية على أنه التصديق بكل ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم مع الاقرار باللسان ، واهل السنة والجماعة يعبرون عن تعريفهم للإيمان بأنه قول وعمل .
ويذكر المؤلفان رأي الحافظ بن حجر في الأيمان عند أهل السلف و يلخصانه في :
أ- أن أهل الســنة يعنون بالإيمان إعتقاد القلب ونطق باللسان وعمل بالأركان.
ب- هناك من الأعمال ما ينقص أصل الإيمان تركها مثل اسـتحلال ترك الواجبات وهناك من الأعمال ما هو شرط لكمال الإيمان وليس صحته ولهذا الإيمان عند أهل السنة يزيد بالطاعة و ينقص بالمعصية .
ج- أفعال قد تدل على كفر فاعلها كالسجود للصنم .
ولكن بما يدخل الكافر الإسلام ؟ الكافر إنما يدخل الإسلام ويصبح في عداد المسلمين بمجرد نطقه بالشهادتين وقبل أن يؤدي الصلاة أوالزكاة أوغيرها ، إن العبادات لا تقبل إلا من مسلم وإنما يكفي أن يقر بالفرائض ويلتزم بها وإن لم يؤدها بالفعل وهذه الشهادة هي التي تعصم دم الإنسان وماله كما في الحديث" فإذا قالوها فقد عصموا مني دمائهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله " . ص 109
الفرق بين الإيمان و الإسلام :
الخلط بين الإيمان والاسلام يؤدي الى الخلط في الحكم على الناس فسر النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان بأعمال القلب "تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وأن تؤمن بالقدر خيره وشره " . وفسر الاسلام بأعمال الجوارح "أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت" وقد يطلق الاسلام في موضع آخر يراد به أيضاً الدين كما في حديث " الاسلام أن يسلم قلبك لله ويسلم المسلمون من لسانك ويدك " . وحديث " أحب للناس ما تحب لنفسك تكن مسلماً " .
الكفر و معناه الكفر لغة الستر وشرعاً تكذيبه صلى الله عليه وسلم في شيء مما جاء به من الدين ضرورة . والكفر خمسة انواع : كفر تكذيب و كفر استكبار وإباء مع التصديق وكفر إعراض وكفر شك وكفر نفاق وقد يطلق الكفر بمعنى الردة كما في قوله تعالى " ومن يرتد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النارهم فيها خالدون " وقد تطلق كلمة الكفر على بعض المعاصي العملية التي لا تحمل إنكاراً ولا جحوداً ولا استحلالاً ولا تكذيباً لله ورسوله ولم يقف الغلاة في التكفير عند الخطأ في تحديد مفهوم الايمان إنما أضافوا اليه وبنوا عليه خطايا عديدة دفعت بهم الى هاوية سحيقة وكانت أولى هذه الخطايا أنهم ذهبوا الى أن كل ما سماه الله ورسوله كفراً في نصوص القرآن والسنة هو من الكفر المخرج عن الملة الذي يوجب خلود صاحبه في النار ولم ينتبهوا إلى أن هذا الإطلاق لا يصح فأهل السنة والجماعة عبر استقرائهم لكل نصوص الكتاب والسنة قرروا قاعدتهم الذهبية في هذا الشأن وهي أن ما سماه الله ورسوله كفراً ليس بالضرورة أن يكون من الكفر المخرج عن الملة أنما قد يكون كفراً أصغر لا يخرج فاعله من الملة ويحمل على كفر النعمة أو كفر الأخوة ونحو ذلك و قد يكون ما سمي كفراً في الكتاب و السنة كفراً أكبر يخرج فاعله من الملة " ص 113 .
ويشير المؤلفان إلى قول الشيخ حافظ حكمي حول مسالة الكفر " ليس كل فسق يكون كفراً ولا كل ما يسمى كفراً و ظلماً مخرجاً من الملة حتى ينظر إلى لوازمه وملزماته، وذلك لأن كلاً من الكفر والظلم والفسوق والنفاق جاءت في النصوص قسمين : أكبر مخرج من الملة لمنافاته أصل الدين بالكلية وأصغر لا ينقص الإيمان وينافي كماله ولا يخرج صاحبه منه فكفر دون كفر وظلم دون ظلم وفسق دون فسق ونفاق دون نفاق " ص 114 .
وينظر المؤلفان إلى تقسيم الكفر إلى كفر أكبر وكفر أصغر إذ يجمع علماء السلف على حمل الكفر المذكور في الآيات التالية على الكفر الأكبر المخرج من الملة " قل ياأيها الكافرون ،لا أعبد ما تعبدون ، ولا أنتم عابدون ما أعبد " و قوله تعالى :" لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم " وقوله تعالى:"إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون " . ومن أمثلة الكفر الأصغر كما جاء في الحديث الصحيح "يا معشر النساء ... إلى آخر الحديث . وقوله صلى الله عليه وسلم " سباب المسلم فسوق و قتاله كفر " إذ أن القتال الذي جرى بين على بن أبي طالب و معاوية ابن أبي سفيان يعتبر من الكفر الأصغر إذ أن العديد من الذين قتلوا في الجانبين من المسلمين الذين شهد لهم الرسول صلى الله عليه و سلم بالجنة .
ويقول المؤلفان أن هناك اختلافاً بين أهل السنة في ما سمي كفراً من بعض النصوص هل هو كفر أكبر أم أصغر ومن ذلك قوله صلى الله عليه و سلم " بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة " فمن العلماء من حمل ذلك على الكفر الأكبر وذهب جماهير السلف والخلف ومالك والشافعي إلى عدم كفر تارك الصلاة تكاسلاً وعدوة فاسقاً ومن أمثلة الخلاف بين الكفرين تفسير قوله تعالى " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون " إذ أن من العلماء من جعل الكفر المذكور في الآية على الكفر الأصغر ومنهم من جعلها على الكفر الأكبر ، ومنهم من قال أنها تحتمل المعنيين . ويخلص المؤلفان إلى : و يبقى أمر يجب الانتباه اليه و هو أن من يقع في الكفر الأكبر المخرج من الملة سواء كان حاكماً أو محكوماً لا يصح تكفيره إلا بعد إقامة الحجة الواضحة التي بمقتضاها يتم التأكد من ثبوت شروط التكفير وانتفاء موانعه و هذا أمر يختص به أهل العلم و الاختصاص من المجتهدين فلينتبه لذلك و ليعض عليه بالنواجذ .
الشرك :
كذلك ينقسم إلى شرك أكبر و هو دعاء إله أو آلهة مع الله أو دون الله و فيه قوله تعالى :" ان الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك " وشرك أصغر مثل قوله صلى الله عليه وسلم" من حلف بغير الله فقد أشرك " وقوله : " من علق – أي - تميمة فقد أشرك " .
النفاق :
النفاق الأكبر هو نفاق العقيدة وهو أن يبطن الكفر ويظهر الايمان خداعاً وكذباً وهو المذكور في أوائل سورة البقرة : " ومن الناس من يقول آمنا بالله واليوم الآخر وما هم بمؤمنين ، يخادعون الله والذين آمنوا وما يخادعون إلا أنفسهم وما يشعرون ".
وهناك النفاق الأصغر وهو نفاق العمل بمعنى أن يتصف المرء المسلم بصفات المنافقين و أخلاقهم و لكن قلبه مؤمن بالله ورسوله واليوم الآخر وهذا ما جاءت به الأحاديث مثل قوله صلى الله عليه و سلم :"آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا أؤتمن خان " . و يقول المؤلفان أن الحكم على شخص بعينه بالكفر الأكبر وأنه من أهل الوعيد أمر خطير كما وضحنا، لذا أوضح كثير من العلماء خطورة هذا الأمر وجعلوا له ضوابط وشرائط لا بد من انطباقها على الشخص المعين وعلى من يحكم عليه بذلك . ص 124 .
ولأن الشخص المعين يمكن أن يكون مجتهداً مخطئاً مغفوراً له ويمكن أن يكون له إيمان عظيم وحسنات أوجبت له رحمة الله أوقبل موته استشعر جرمه وخشي لقاء ربه كما غفر للذي قال" إذا مت فاسحقوني ثم ذروني، ثم غفرالله له لخشيته ..ص125
ما حكم مرتكب الكبيرة ؟ يقول الشيخ ابن أبي العز الحنفي في شرح الطحاوية قائلاً :" الجواب أن أهل السنة متفقون جميعاً على أن مرتكب الكبيرة لا يكفر كفراً ينقل عن الملة بالكلية كما قالت الخوارج ، إذ لو كفر كفراً ينقل عن الملة لكان مرتداً يقتل على كل حال ولا يقبل عفو ولي القصاص ولا تجري الحدود في الزنا والسرقة وشرب الخمر وهذا القول معلوم بطلانه وفساده بالضرورة من دين الاسلام . ومتفقون على أنه لا يخرج من الإيمان والاسلام ولا يدخل في الكفر ولا يستحق الخلود مع الكافرين كما قالت المعتزلة فإن قولهم باطل أيضاً إذ قد جعل الله مرتكب الكبيرة من المؤمنين قال الله تعالى :" يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتل " إلى قوله تعالى :" فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف " . فلم يخرج القاتل من الذين آمنوا وجعله أخاً لولي القصاص والمراد أخوة الدين بلا ريب . ص 128 .
وقال تعالى :" وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بين أخويكم " . ونصوص الكتاب والسنة والاجماع تدل على أن الزاني والسارق والقاذف لا يقتل بل يقام عليه الحد فدل على أنه ليس بمرتد وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :" من كانت عنده لأخيه مظلمة ... إلى آخر الحديث . فثبت أن الظالم يكون له حسنات يستوفي المظلوم منها حقه .
وقال الله تعالى :" إن الحسنات يذهبن السيئات " فدل ذلك على أنه في حال مساءته يعمل حسنات تمحو السيئات , والمعتزلة موافقون للخوارج هنا في حكم الآخرة فإنهم وافقوهم على أن مرتكب الكبيرة مخلد في النار لكن الخوارج قالت نسميه كافراً ، وقالت المعتزلة نسميه فاسقاً فالخلاف بينهما لفظي فقط وأهل السنة أيضاً متفقون على أنه يستحق الوعيد المترتب على ذلك الذنب كما وردت به النصوص ص 129 .
ويستدل المؤلفان في حكم مرتكب الكبيرة من قول النووي :" وأما من مات وله معصية كبيرة ومات من غير توبة فهو في مشيئة الله تعالى فإن شاء عفى عنه وأدخله الجنة أولاً وجعله كالقسم الأول :" الذين يدخلون الجنة لأنهم لم يذنبوا أو تابوا " وإن شاء عذبه بالقدر الذي يريده سبحانه وتعالى ثم يدخله الجنة فلا يخلد في النار أحد مات على التوحيد ولو عمل من المعاصي ما عمل ، كما أنه لا يدخل الجنة أحد مات على الكفر ولو عمل من أعمال البر ما عمل ، هذا مختصر جامع لمذهب أهل الحق في هذه المسألة .
وقد تظاهرت أدلة الكتاب والسنة وإجماع من يعتد به من الأئمة على هذه القاعدة وتواترت بذلك نصوص تحصل العلم القطعي فإذا تقررت هذه القاعدة حمل عليها جميع ما ورد من أحاديث الباب وغيره فإذا ورد حديث في ظاهره مخالفة وجب تأويله ليجمع بين نصوص الشرع . ص 130 .
ويقول المؤلفان وهكذا سقنا هذه الأقوال والأدلة المختصرة لنبين أن المعاصي ليست كلها كفراً مخرجاً من الملة وأن مرتكب الكبيرة لا يكفر إن مات على التوحيد وهناك من يحمل فكراً ضالاً ومنحرفاً يستندون على حديث :" لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن " ( لنفي الإيمان عن الزاني ) و للرد على هؤلاء يشير المؤلفان إلى قول النووي :" قوله صلى الله عليه وسلم "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهومؤمن " فالقول الصحيح الذي قاله المحققون : إن معناه لا يفعل هذه المعاصي وهو كامل الإيمان وهذا من الألفاظ التي تطلق على نفي الشيء ويراد نفي كماله ومختاره " ص 131 .
ويقول عز و جل :" إن الله لا يغفرأن يشرك به ويغفر ما دون ذلك " مع إجماع أهل الحق على أن الزاني والسارق والقاتل وغيرهم من أصحاب الكبائر غير الشرك لا يكفرون بذلك بل هم مؤمنون ناقصوا الإيمان أن تابوا سقطت عقوبتهم وإن ماتوا مصرين على الكبائر كانوا في المشيئة فإن شاء الله عفا عنهم وأدخلهم الجنة أولاً وإن شاء عذبهم ثم أدخلهم الجنة .
والكفر المخرج عن الملة لا تزول عقوبته الآخروية إلا بالتوبه ، أما عقوبة الذنوب في الآخرة فقد دلت نصوص الكتاب و السنة على أنها تزول عن العبد لعدة أسباب : ( التوبة ـ الاستغفار - الحسنات الماحية – الدافع للعقاب – ما يعمل للميت من أعمال – شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم – المصائب التي يكفر الله بها الخطايا في الدنيا – ما يحصل في القبر من فتنة والضغطة والروعة- أهوال يوم القيامة و شدائدها – رحمة الله تعالى و عفوه و مغفرته بلا سبب من العباد ) .
ويختتم المؤلفان هذا الفصل بقولهما " والآيات و الأحاديث تتواتر لتؤكد أن الله يغفر الذنوب جميعاً دون الشرك من غير توبة للعبد متى شاء ذلك سبحانه وتؤكد سعة رحمة الله رب العالمين التي وسعت كل شيء فليت هؤلاء الذين يتسرعون ويحكمون جهلاً على عصاة الموحدين بالكفر ليتهم تدبروا هذه النصوص وفهموا مقاصد الشريعة وتخلقوا بأخلاق الله الذي جعل رحمته تغلب غضبه " لما خلق الله الخلق كتب في كتاب فهوعنده فوق العرش : إن رحمتى تغلب غضبي "ص 139 .
بدعة تكفير جهاد المسلمين و الرد عليها
يقدم المؤلفان لهذا الباب بقولهم " لقد تورط بعض نفر ممن ينتسبون إلى بعض فصائل الحركة الإسلامية في قضية قد حسمها الشرع ودل عليها العقل وأدركها الفطر السليمة ألا وهي قضية كون عارض الجهل مانعاً من لحوق حكم الكفر لمن أتى فعلاً كفرياً وهو يجهل أنه كفر، وهو لا يريده ولو علم أنه كفر لما أقدم عليه ولما أقترفه إنما فعله جاهلاً بحقيقة أمره بل يكون معتقداً بفعله هذا أنه يتقرب إلى الله كأولئك الجهال الذين يفعلون أفعالاً شركية عند قبور الصالحين وعدم اعتبار عارض الجهل مانعاً لحقوق حكم بالكفر بفاعله غلو في الدين وتشدد في غير موضعه ومخالفة لعقيدة أهل السنة والجماعة الذين يعتقدون أن من أتى كفراً لا يكفر حتى تقام عليه الحجة ويرون أن الشخص المعين الذي يرتكب كفراً لا يحكم بكفره إلا بعد ثبوت شروط إنتفاء موانع ص 143 .
ويقسم المؤلفان الموانع التي تتتسب انتفاء حكم الكفر عن فاعله إلى :
أ- العوامل التي تسبب إنتفاء شروط العقل
1- عارض الجنون .
2- عارض الصغر وذلك لقوله صلى الله عليه و سلم " رفع القلم عن ثلاثة النائم حتى يستيقظ و عن الصبي حتى يشب و عن المجنون حتى يعقل "
3- عارض السكر .
4- عارض العته .
ب- الموانع التي تسبب انتفاء شروط القصد .
1- عارض الإكراه .
2- عارض الهزل .
3- عارض الخطأ .
4- عارض التأويل .
ج- العوارض التي تسبب انتفاء شروط العلم .
عارض الجهل : إذا أتى المسلم الجاهل فعلاً أو قولاً أو اعتقد إعتقاداً هو كفر ينقص الإيمان وهو لا يعرف ذلك فإنه معذور بجهله ولا يكفر حتى تقام عليه الحجة وقد نبه الإمام العظيم شيخ الإسلام ابن تيمية على ثبوت شروط وانتفاء موانع باعتبارها من أهم جوانب قيام الحجة .
أولاً : الأدلة من الكتاب
أ- أدلة تدل على عدم لحوق الوعيد الأخروي إلا بعد بلوغ العلم : قال تعالى " وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمراً حتى جاؤوها فتحت أبوابها و قال لهم خزنتها ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم و ينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا بلى " .
ب- أدلة تدل على تعذيب و إهلاك ا لكافرين في الدنيا إلا بعد علمهم بدعوة الرسل قال تعالى " ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولاً فنتبع آياتك و نكون من المؤمنين " .
ج- أدلة تبين عدم مؤاخذة أهل الكتاب إذا لم تبلغهم دعوة محمد صلى الله عليه و سلم و كذلك أهل الفترة قال تعالى " " و ما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً " و من الأدلة التي تبين اشتراط العلم قوله تعالى " و ما كان الله ليضل قوماً بعد اذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون إن الله بكل شيء عليم " .
أدلة عامة تبين اشتراط العلم .
قال الله تعالى " و ما كان الله ليضل قوماً بعد اذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون إن الله بكل شيء عليم " .
ويذكر المؤلفان بعض الأحاديث التي توضح عذر الله لمن لم تبلغه الرسالة أو لم تبلغه الدعوة و كذلك من لم يبلغه حكم أو أمر عقيدي قد يخرج به من الملة . مثل حديث أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال :" قال رجل لم يعمل حسنة قط لأهله ..." رواه البخاري و مسلم . و حديث أبي واقد الليثي قال :" خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى حنين و نحن حدثاء عهد بكفر ... " رواه الترمذي و المعجم الكبير للطبراني ص 151 .
كما يشير المؤلفان إلى مجموعة أقوال العلماء من إثبات عارض الجهل بالنسبة لأهل القبلة منها : قال شيخ الاسلام ابن تيمية :هذا مع أني دائماً ومن جالسني يعلم ذلك مني إني من أعظم الناس نهياً عن أن ينسب معين إلى تكفير و تفسيق ومعصية إلا إذا علم أنه قد قامت عليه الحجة الرسالية التي من خالفها كان كافراً تارة وفاسقاً أخرى وعاصياً أخرى ، وإني أقرر أن الله قد غفر لهذه الأمة خطأها وذلك يعم الخطأ في المسائل الخبرية القولية و الرسائل العلمية قال أبن العز : " ثم إذا كان القول في نفسه كفراً قيل لأنه كفر والقائل له لا يكفر إلا بشروط وانتفاء الموانع " .
الدليل العقلي و الأصولي
يدل صحيح العقل على اشتراط العلم كي يلحق حكم الكفر لمن أتى ما يستوجبه ، ويوضح ذلك ما يلي :
1- ان الإنسان يولد لا يعلم شيئاً كما قال تعالى :"الله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً وجعل لكم السمع والأبصاروالأفئدة لعلكم تشكرون "
2- ان الله ارتضى لعباده منهجاً وديناً قال تعالى :" و رضيت لكم الاسلام دينا " .
3- و لكي يعلم العباد أوامر الله ونواهيه فلا بد من ارسال الرسل و انزال الكتب .
4- ولا بد أن تصل رسالة الرسل إلى عباد الله لكي يعرفوا الحلال والحرام ، فمن لم يصله بلاغ الرسل فإنه لن يعلم الحلال من الحرام ولن يعرف صفات الله وأسمائه ولا يعتقد اعتقاد صحيح في الملائكة والكتب السماوية واليوم الآخر لأننا لو كلفناه أن يعرف الحق دون بلاغ من رسول ووصول هذا البلاغ له لكلفناه بالمستحيل لذلك قررعلماء الأصول أن شروط العلم من الشروط الضرورية لتكليف العبد فيعلم هذا الأمر علماً واضحاً وأنه من عند الله . ص 155
ويخلص المؤلفان إلى أن شيخ الإسلام ابن تيمية قد وضع قاعدة لا بد من لزومها قبل الإقدام على تكفير الشخص المعين منهم – أهل القبلة – وهي تشمل أمرين :
أولاً : ضرورة النظر إلى القول أوالفعل والتأكد من كونه مخرجاً من الملة وأنه ليس يقبل التقسيم بمعنى أن يكون كفراً باعتباره وغير كفر باعتبار آخر .
ثانياً : النظر في حالة الشخص الذي صدر منه القول أو الفعل لأنه قد يكون القول أو الفعل كفر مخرجاً من الملة لكن الشخص الذي صدر منه لا يكفر بذلك إذ قد يكون قد عرض له مانع يمنع لحوق الكفر به كالجنون و الإكراه . ص 156 .
ثم يلقي المؤلفان الضوء على ذلك الأمرين بتحديد الضوابط المعينة على ما هو كفراً مخرجاً من الملة من أقوال وأفعال وإعتقادات ثم النظر في حال الشخص المعين للتحقق من قيام موجب التكفير أولا ويقولان في نهاية هذا الفصل " وبعد فإن المسارعين إلى تكفير جهال المسلمين الذين قد يدفعهم جهلهم إلى الوقوع في أعمال شركية دونما أن يتحققوا من ثبوت الشروط وانتفاء الموانع التي حددها الشرع قبل الحكم على فاعل الكفر بالخروج من الملة إن هؤلاء قلة غالوا في دينهم بغير حق وتشددوا في غير موضع تشدد وحري بهم أن يتخلقوا بأخلاق النبي صلى الله عليه وسلم الرحيم بأمته الرؤوف بهم . ص 162
الفصل الثالث : الغلو في تكفير المسلمين بالموالاة الظاهرة .
يقسم المؤلفان موالاة الكفار الى قسمين :
1- موالاة باطنة .
2- موالاة ظاهرة .
فالموالاة الباطنة هي : الميل القلبي إلى الكفار حباً في عقيدتهم ورغبة في نصرتهم على المسلمين كفعل المنافقين مع اليهود في زمن النبي صلى الله عليه و سلم . وهذا النوع يخرج صاحبه من ملة الإسلام لقوله تعالى :" ومن يتولهم منكم فهو منهم " .
والموالاة الظاهرة هي: نصرة الكفار أومساندتهم لأمر أومصلحة دنيوية مع استقرار الإيمان بالقلب ومحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم كفعل حاطب ابن أبي بلتعة رضي الله عنه مع المشركين قبل فتح مكة وهذا الفعل لا يخرج صاحبه من الملة وإنما يعد ذلك معصية فقط وذلك لأنه لا ينقض الإيمان وإنما ينقصه ويقول المؤلفان :" وبعد أن أوضحنا نوعي الموالاة نتجة إلى النفر من شباب الحركة الإسلامية الذين غالوا في هذه المسألة فحكموا على كل من أتى فعلاً من أفعال الموالاة بالكفر الأكبر دون النظر في حاله ودونما تمحيص لموالاته هل هي ظاهرة أم باطنة فهم لم يفرقوا بين النوعين وإنما جعلوها واحداً" ... ص166.
وفي هذا السياق يبحث المؤلفان في الرد على من ادعى كفر موظفي الحكومة :" ثم عوداً إلى هؤلاء الذين حرموا العمل في الوظائف الحكومية وكفروا شاغليها فإنهم قد أخطئوا أوخلطوا لأن الوظائف لم تكن يوماً من الأيام كافية للحكم على الناس وعلى معتقداتهم " ويقسم المؤلفان حالات الوظائف إلى فئة تعمل من أجل مصلحة دنيوية وعملها في حدود الحلال شرعاً والمشروع من الدين . وفئة تعمل عملاً قد لا تستطيع فيه تحقيق العدل التام لكنها تشغله مما يخفف الظلم الواقع على المسلمين أويحقق مصلحة للإسلام أوالمسلمين وأخرى من يقع في عملها ظلم وجور ويرتكب مخالفات شرعية لطبيعة العمل لكنها تقع في هذه الأعمال ومن يعمل في ذلك لا يكره الإسلام ولا يتمنى علو الكفر على الإيمان بل قد يلتبس عليه أحياناً الحق بالباطل ، أويأتي المحظور من أجل مصلحة دنيوية . وهناك فئة أخرى تعمل كسابقتها لكن الذي يعمل يختلف في أنه يحب الكفر ويكره الإسلام وظهرت دلائل هذا الحب في صورة أفعال وأقوال ظاهرة فإنه لا يستدل على حال القلب إلا بفعل الظاهر، فهؤلاء لا يشك في كفرهم وخروجهم من دائرة الإســـلام ويقول المؤلفان :" هذه حالات متباينة لكل واحدة منها حكمها الذي يناسبها أما تعميم الأحكام واطلاقها هكذا دونما النظر إلى حال كل واحد وكل فرد فهو كارثة عظمى إذ أنه سيقع تحت طائلة هذا التعميم مسلمون كثيرون براء من هذا الحكم الذي صدر عليهم بدون وجه حق . إن خطأ من وقع في تكفير بعض المسلمين بحجة الموالاة الظاهرة خطأ بين لأن الموالاة المكفرة هي الموالاة الباطنة ... " ص 172 .
ويأتي المؤلفان إلى الفرق بين الموالاة الممنوعة والمخالفة المشروعة ويقولان :" وقد يظن البعض أن عيادة المريض الكافر أو النصراني هي من الموالاة وقد يعتقد فريق ثالث أن إهداء المسلم للكافر أوالنصراني أو تقبل هديته أو إكرامه أو التصدق عليه نوع من الموالاة لهم أيضاً ، وقد يلتبس على آخرين فيعتقدون أن تهنئة المسلم للكافر بإنجاب ذرية أو نجاح في كلية أو زواج و نكاح أو قدوم من ســــفر أو شفاء من مرض ويعتقدون أن كل ذلك نوع من الموالاة وغلط هؤلاء جميعاً ، فكل هذه الأبواب وأمثالها لا تدخل تحت مسمى المخالقة بالحسنى ، فالاسلام جاء بأعظم الأخلاق وأكرمها وأسماها وبعث الرسول صلى الله عليه وسلم ليتم مكارم الأخلاق كما أخبر هو نفسه :إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق " ص 177 .
ويشير المؤلفان إلى قبول النبي صلى الله عليه وسلم دعوة يهودي وإلى عيادة يهودي آخر في بيته وكذلك إغاثته مشركي قريش لما أصابتهم المجاعة وكل ذلك يوضحه قوله صلى الله عليه وسلم في حديثه :" خالق الناس بخلق حسن " .
يستعرض المؤلفان بعد ذلك صوراً من المخالقة الحسنة الجائزة مع الكفار والتي يظنها البعض خطأً أنها موالاة محرمة :
أولاً :
عيادة المريض الكافر يدل عليها حديث أنس بن مالك في صحيح البخاري قال :" كان غلام يهودي يخدم النبي صلى الله عليه وسلم فمرض فأتاه الرسول صلى الله عليه و سلم يعوده ... " قال أبو مسعود الأصبهاني: سألت أحمد بن حنبل عن عيادة القرابة و الجار النصراني قال نعم .
ثانياً :
التهنئة بالزواج والإنجاب والعودة من السفر وما شابهه . يقول المؤلفان أن ذلك يجوز لما ذكره ابن القيم في كتابه أحكام أهل الذمة " و يهنئهم بزوجة أو ولد و لا يهنئهم بشعائر الكفر .." .
ثالثاً :
إنفاق المسلم على قرابته من أهل الذمة من يهودي ونصراني ، قال ابن القيم رحمه الله :" الذي يقوم عليه الدليل وجوب الإنفاق وان اختلف الدينان لقوله تعالى : " ووصينا الإنسان بوالديه حسنا وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به فلا تطعهما إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون " . وقد ذم الله تعالى قاطعي الرحم لقوله :" واتقوا الله الذي تسائلون به و الأرحام " ، وفي الحديث " لا يدخل الجنة قاطع " .
رابعاً :
تشييع جنازة الكافر : يشير المؤلفان إلى مجموعة من الأحاديث منها : عن أبي وائل قال : ماتت أمي نصرانية فأتيت عمر فسألته فقال : اركب في جنازتها وسر أمامها . وعن سعيد بن جبير قال : سألت ابن عباس رضي الله تعالى عنه عن رجل مات أبوه نصرانياً قال : يشهد و يدفنه .
وقال محمد بن موسى : قلت لأبي عبدالله الإمام أحمد بن حنبل : يشيع المسلم جنازة المشرك : قال نعم .
خامساً :
جواز تعزية الكافر بما لا يخالف الشرع ولا يكون في مكان عبادتهم .
عن هريم قال سمعت الأجلح عزى نصرانياً فقال : عليك بتقوى الله والصبر .
سادساً :
مشاركتهم في العمل المباح : قال اسحق بن ابراهيم : سمعت أبا عبدالله الإمام أحمد بن حنبل " وسئل رجل يشارك اليهودي والنصراني ، قال : يشاركهم لكن يلي هو البيع و الشراء لأنهم يأكلون الربا ويستحلون الأموال .
ويقول المؤلفان بعد كل ذلك " ... إن الدين الإسلامي دين ينفتح على الآخرين لأنه دين قوي لا يخشى شيئاً من انفتاحه على الآخرين و التعامل معهم .
والمسلم كذلك قوي بإيمانه وقوي بعقيدته السليمة الواضحة التي لا لبس فيها ولا غموض وقوي بشريعته الوسطية السمحة التي تجمع خيري الدنيا والآخرة . ولذلك فإن المسلم بحق لا يخشى شيئاً من انفتاحه على أهل الأديان الأخرى يعطيهم النافع من دينه ودنياه ويأخذ منهم الصالح في دنياهم يقترب منهم دون وجل لأنه القوي ، يحسن اليهم ويخالقهم أحسن مخالقة " ص188 .
وفي ختام هذا الكتاب يقول المؤلفان بعد أن تناولا قضيتي الغلو في الدين وبدعة التكفير ، أن على كل مسلم أن يراعي أمرين هامين و هما :
1- الوقوف بوجه كل من يروج لهذه البدعة المذمومة والحث على المحبة والمودة والإخاء والتراحم بين المسلمين .
2- على المسلم أن يقدم للبشرية النموذج الصحيح للمسلم الذي يتخلق بأخلاق القرآن ويهتدي بهدي سيد المرسلين ، ويقدم الإسلام في وسطيته التي لا غلو فيها ولا تقصير ولا إفراط ولا تفريط . ص 194 .
الباب الأول : الغلو في الدين وأسبابه ومظاهره *.لفصل الأول : حكمة تحريم الغلو في الدين .
يقول المؤلفان في المقدمة ، كمدخل إلى الموضوع : لم تعان أمة الاسلام من آفة نزلت بها مثل معاناتها مع آفة تكفير المسلمين التي عشعشت في عقول نفر من ابنائها ، وجعلتهم يكفرون المسلمين بغير مقتضى شرعي .
ومن ثم أهدروا دماءهم واستحلو أموالهم ، دون أن يكون معهم دليل من الشرع ، أو حجة من الدين أو برهان من أقوال السلف ، ولم يكونوا في الوقت نفسه مؤهلين للخوض في هذه اللجة العميقة ، والسباحة في هذا البحر العميق الذي لا يجيد السباحة فيه سوى العلماء التقات الأثبات الصادقين الذين تسلحوا بالعلم وتجردوا عن الهوى . ص(3)
بداية ماهو الغلو؟
في اللغة هو الزيادة عن الحد ، وشرعا هو مجاوزة الحد المطلوب شرعاً من العبد إلى ماهو أبعد منه فلا يكتفى بطلب الشارع ، بل يشعر بأن ماطلبه الشارع قليل ولا يكفي فيغالي ويزيد من عنده على ما أمر به الشارع ، اعتقادا بان ذلك محبوب شرعا ، وهذا ايضا هو تعريف التشدد والتنطع والتطرف . ص (19).
وفي حكمة تحريم الغلو في الدين يسـوق المؤلفان عدة أسـباب في ذلك منها : أن الغلو منفر لا تحتمله طبيعة البشر ولا تصبر عليه ، وان صبرت عليه وتحملته فئة فان الغالبية لا تقوى على ذلك والدليل على ذلك حديث جابر بن عبدالله الانصاري لما غضب رسول الله (ص) من معاذ حين صلى بالناس فأطال حتى شكاه أحدهم للنبي (ص) فقال له : ( أفتان أنت يا معاذ؟ ) وكررها ثلاثاً.
وقوله (ص) لمعاذ وأبي موسى لما بعثهما إلى اليمن ( يسرا ولا تعسرا وبشرا ولا تنفرا وتطاوعا ولا تختلفا) وقول عمر رضى الله عنه : ( لا تبغضوا الله الى عباده فيكون أحدكم إماما فيطول على القوم الصلاة حتى يبغض إليهم ماهم فيه ) .
كما أن الغلو قصير العمر ، والانسان ملول وطاقته محدودة نفسيا وبدنيا ، وربما يقوده الغلو إلى السأم او ينتقل إلى الافراط والتفريط ومن التشــدد الي التســيب ولذا قال رسـول الله (ص) : ( ان المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى ) وقوله (ص) : (يا أيها الناس عليكم من الأعمـــال ما تطيقون ، فان الله لا يمل حتى تملوا وان أحب الأعمال الى الله ما دووم عليه وان قل ) وحديث ابوهريره رضى الله عنه قال : قال رسول الله (ص) : ( ان الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه ، فسددوا وقاربوا وأبشروا وأستعينوا بالغدوة والروحة وشئ من الدلجة ) .
والغلو في الدين لا يخلو من جور على حقوق أخرى يجب أن تراعى وواجبات يجب أن تؤدى وما أصدق ما قاله الحكماء: ( ما رايت اسرافا الا وبجانبه حق مضيع ) وقال رســـول الله (ص) لعبدالله بن عمر حين بلغه انهماكه في العبادة انهماكا أنساه حق أهله عليه ، قال : ( ياعبــــدالله ألم أخبر أنك تصــوم النهار وتقوم الليــــل ) فقال : قلت بلى يارسول الله ، فقال (ص) : ( فلا تفعل ، صم وأفطر وقم ونم ، فإن لجسدك عليك حقا ، وإن لعينك عليك حقا ، وإن لزوجك عليك حقا ، وإن لزورك عليك حقا) ص (23).
الفصل الثاني : من مظاهر الغلو في الدين .
بعد أن بين المؤلفان حكمة تحريم الغلو في الدين فانهما يشيران الى مظاهرة وهي:
1- التعصب للرأي وعدم الاعتراف بالرأي الآخر: في الأمور الاجتهادية والأمور المحتملة ، وكثيرا ما يجعل الأمور الاجتهادية أمورا مقطوعة ويقينية ليس فيها الا قول واحد وهو قوله ( ولا رأي الا رأيه) ص (27) .
ويقينا أن هناك من يحاول ان يفرض رأيه بالقوة ، ويزداد الأمر خطورة حين يراد فرض الرأي على الآخرين بالعصا الغليظة ، وهنا قد لا تكون العصا الغليظة من حديد أو خشب فهناك الاتهام بالابتداع او بالاستهتار بالدين او بالكفر والمروق ، ان هذا الارهاب الفكري اشد تخويفا وتهديدا من الارهاب الحسي) ص (28).
2- إلزام جمهور الناس بما لم يلزمهم الله به:
يقول المؤلفان : ( ومن مظاهر الغلو الديني التزام التشدد مع قيام موجبات التيسير والزام الآخرين به حيث لم يلزمهم الله به ، فلا ينبغي لمسلم ان يرفض التيسير في وقت الحرج وأن يرفض الرخصة التي رخصها الله ويلزم جانب التشدد ) ص(28).
والله تعالى يقول : ( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ) وعائشة رضى الله عنها تقول : ( ماخير رسول الله (ص) بين أمرين الا اختار أيسرهما ما لم يكن أثما ) ويذكر المؤلفان أن من التشدد على الناس محاسبتهم على النوافل والسنن كأنها فرائض، وعلى المكروهات وكأنها محرمات والمفروض الا تلزم الناس الا بما الزمهم الله تعالى به جزما وما زاد على ذلك فهم مخيرون فيه إن شاء وا فعلوا وإن شاءوا تركوا ، ويشير المؤلفان في هذا السياق إلى حديث طلحة بن عبيدالله في الصحيح في قصة ذلك الاعرابي الذي سأل النبي (ص) عما عليه من فرائض فأخبره بالصلوات الخمس وبالزكاة ورمضان ، فقال هل على غيرها ؟ فقال : لا . إلا ان تطوع ، فلما أدبر الرجل قال : والله لا أزيد على هذا ولا أنقص ، فقال النبي (ص) : ( افلح إن صدق ، أو دخل الجنة إن صدق ) ص (31) .
3- التشدد في غير موضعه :
ولما كان التشدد أحد أهم مظاهر الغلو في الدين ، فإنه يكون أعظم اذا كان في غير زمانه ومكانه ، كأن يكون مع قوم حديثي العهد بالاسلام أو حديثي عهد توبة ، أو في غير دار الاسلام وبلاده الاصلية ، فهؤلاء ينبغي التساهل معهم في المسائل الفرعية والأمور الخلافية ، والتركيز معهم على الكليات قبل الجزئيات وتصحيح عقائدهم أولاً ، كما جاء في حديث رسول الله (ص) لمعاذ بن جبل لما أرسلة إلى اليمن : ( انك تأتي قوما من أهل الكتاب . .) ص (31).
4- الغلظة والخشونة :
يقول المؤلفان ان من مظاهر الغلو والتشدد في الدين الغلظة في التعامل والخشونة في الأسلوب والفظاظة في الدعوة خلافا لأمر الله ورسوله فقد قال تعالى : ( فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك ) وقال الرسول (ص) ان الله رفيق يجب الرفق في الأمر كله ) وفي تحليل المؤلفان لموقف الشباب من الناس في هذا الشأن يقولان : ( وللأسف الشديد نجد بعض شباب الحركات الاسلامية يتحاورون ويتعاملون بالغلظة مع الناس ، لا يفرقون في ذلك بين كبير وصغير ، ولا بين من له حرمه خاصة كالأب والأم ومن ليس كذلك ولا بين من له حق التوقير والتكريم كالعالم والفقيه والمعلم والمربي ومن ليس كذلك ، ولا يفرقون بين من هو معذور ومن ليس كذلك ، ومن هو جاهل ومن يعادي الاسلام عن عمد وعلم وبصيرة ) ص (34).
5- سوء الظن بالناس :
ومن مظاهر الغلو والتشدد ولوازمه سوء الظن بالآخرين ، فالأصل عند المتشدد هو الاتهام ، والاصل في الاتهام الادانة خلافا لما تقرره الشرائع والقوانين : ( ان المتهم برئ حتى تثبت إدانته ) ان المتشددين يرجحون احتمال الشر على احتمال الخير ، ويعتبرون من يخالفهم متهم في دينه أو الابتداع ، ويقول المؤلفان فوق ذلك : (ولا يقتصر سوء الظن عن هؤلاء على العامة بل يتعدى الى الخاصة وخاصة الخاصة ، فاذا أفتي فقيه بفتوى فيها تيسير على خلق الله ورفع الحرج عنهم فهو في نظرهم متهاون في الدين ، ولم يقف الاتهام عند الاحياء ، بل انتقل الى الأموات الذين لا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم ، كأئمة المذاهب المتبعة ، فهم على مالهم من فضل ومكانة لدى الأمة في كافة عصورها لم يسلموا من ألسنتهم وسوء ظنهم ، ان ولع من يكفرون المسلمين بالهدم لا بالبناء ولع قديم وغرامهم بانتقاد غيرهم وتزكية أنفسهم أمر معروف ، والله سبحانه وتعالى يقول : (فلا تزكوا أنفســـكم هو أعلم بمن أتقى ) ص(35). بل أن رسول الله (ص) يقول : ( اياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ) ص ( 36).
ويشير المؤلفان الى ان المتشددين لا يرون الا المثالب ولا يعجبهم احد ولا ينظرون الى الحسنات وهذه نظرة غير عادلة وانحراف عن الطريق السليم فالله يقول : ( يا ايها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنئان قوم على الا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله ان الله خبير بما تعملون ) . وقال تعالى : ( ياايها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء ولو على انفسكم أو الوالدين والأقربين ان يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى ان تعدلوا وان تلوا أو تعرضوا فان الله كان بما تعملون خبيرا ) .
ويرى المؤلفان انه يجب على المسلم العدل والانصاف ويزن الناس بميزان الشرع والوسطية ولا ينبغي له ان يحقر أخاه المسلم ، فقد قال الرسول (ص) : ( بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم ) ص (38) .
6- النظرة المثالية للمجتمع :
يقول المؤلفان ان من مظاهر الغلو ان ينظر المرء الى المجتمع وأفراده نظرة مثالية ، وانه ينبغي ان يكون خاليا من المعاصي ويسوده الحب والمودة والطاعة ، وهذه نظرة مثالية وغلو في التصور وبعد عن الواقع ، وقد كانت المعاصي والذنوب في كل الأمم وفي اتباع الرسل فهي فيمن دونهم من باب أولى ، وان كل ابن آدم خطاء كما قال رسول الله (ص) : ( ولو لم يذنب البشر لخلق الله بشرا يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم ) كما ورد في الحديث . ص (40) .
وقال تعالى : ( وخلق الانسان ضعيفا ) ثم يستعرض المؤلفان مجموعة من الاحاديث التي دلت على وقوع بعض المعاصي والذنوب في عهد الصحابة رضى الله عنهم وذلك لتبيان ان خير القرون هو قرن الرسول (ص) لم يكن خاليا من المعاصي سواء كانت من الكبائر أم من الصغائر ، وكذلك لتبيان بشرية الصحابة وان في عهدهم من قتل وسرق وزنى وشرب الخمر ، كما يدل ذلك على ان حدوث المعاصي والذنوب في القرون التالية اكبر ولا يخرجها ذلك عن الاسلام ، ويقولون انه لا يجوز لاحد ان يصفها بانها امة قد ارتدت او أنها عصر جاهلية كجاهلية ما قبل الاسلام . ص (41) .
ويأتي المؤلفان الى عصرنا الحديث ويقولان ان ما وقع لطائفة الخوارج قديما وقع لجماعة ( التكفير والهجرة ) حديثا فهم يكفرون كل من ارتكب معصية ويكفرون الحكام والمحكومين والعلماء والناس وكل من خالفهم بل انهم يكفرون كل من قبل فكرهم ولم يدخل في جماعتهم ويبايع امامهم ، ودخل في جماعتهم تم ترائ له لسبب أو لآخر أن يتركها .
فهو مرتد حلال الدم ، وهكذا أسرف هؤلاء في التكفير ، فكفروا الناس أحياءً وأمواتا ، وقد حذر الرسول (ص) من الاتهام بالكفر ، ففي الحديث الصحيح ( من قال لأخيه : ياكافر فقد باء بها أحدهما ) أي فيما لم يكن الآخر كافراً بيقين فقد ترد التهمة على من قالها ويبوء بها فهذا خطر جسيم ) ص (52).
7- من أسباب الغلو في الدين :
يرى المؤلفان ان من اسباب الغلو في الدين التالي :
أ- ضعف البصيرة بحقيقة الدين.
ب- ضعف البصيرة بالواقع .
إن ضعف البصيرة بحقيقة الدين المقصود به هنا هو نصف العلم الذي يظن صاحبه انه دخل به في زمرة العلماء وهو يجهل الكثير والكثير ، ولا يربط الجزئيات بالكليات ولا يرد المتشابهات إلى المحكمات . وقال النبي (ص) في ذلك : ( ان الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد ، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى اذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤوساء جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا واضلوا ) .
ومن مظاهر الجهل :
1- الاتجاه الظاهري في فهم النصوص : ويقول المؤلفان ان بعض الشباب يتمسكون بحرفية النص دون التغلغل الى فهم فحواها ومعرفة مقاصدها فهم لا يعرفون القياس ولا يستخدمونه ولا ينظرون الى العلة والحكمة من وراء التشريع ويضربان على ذلك مثلا ، فهم البعض لما ورد في حديث الرسول (ص) من نهى ان يسافر بالمصحف الى أرض الكفار أو أرض العدو ، والناظر في علة هذا المنع يتبين له ان النبي (ص) لم ينه عن ذلك إلا مخافة ان يستهين الكفار بالمصحف ، وحين تنتفى العلة ينتقى الحكم ، وكذلك مثال نهى الرسول (ص) المسافر أن يطرف أهله ليلاً . ص ( 58).
2- الإنشغال بالمعارك الجانبية عن القضايا الكبرى : ومن دلائل عدم الرسوخ في العلم ومظاهر ضعف البصيرة في الدين اشتغال البعض من هؤلاء بكثير من المسائل الجزئية والأمور الفرعية عن القضايا الكبرى التي تتعلق بوجود الأمة الاسلامية وهويتها ومصيرها ، فنرى كثير منهم يقيم الدنيا ولا يقعدها من أجل مسائل فرعية اختلف فيها العلماء سلفا وخلفا ولا مصير الى اتفاقهم فيها لانها من المسائل الاجتهادية الفرعية التي تتفاوت فيها الأفهام وتتعارض فيها الأدلة ، ويضرب المؤلفان أمثلة على ذلك مثل وضع اليدين في الصلاة ، وهل توضع على الصدر أم تحت السرة أم تسدل الى الجانبين ، والاختلاف فيها لا يمثل كبير اختلاف ولا يجوز تضييع الجهد عليها وترك ما هو اعظم وأكبر . ص (61) .
3- الاسراف في التحريم ( بغير دليل) : ومن دلائل عدم الرسوخ في فقه الدين الميل دائما الى التضييق والتشديد والاسراف في القول بالتحريم مع تحذير القرآن الكريم والسنة والسلف من ذلك ، فقد قال تعالى : ( ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب ، هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب ، ان الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون ) . وكان السلف لا يطلقون الحرام الا ما علم تحريمه جزما ، فاذا لم يجزم بتحريمه قالوا : ( نكره كذا او لا نراه أو نحو ذلك من العبارات ولا يصرحون بالتحريم ) والمتشددون يجنحون الى التحريم دائما مع وجود الكراهة او يجنحون الى التشدد والتضييق مع وجود التيسير .
4- إتباع المتشابهات وترك المحكمات : المتشابه هو ماكان محتمل المعنى وغير منضبط المدلول ، والمحكم هو البين المعنى الواضح الدلاله المحدد المفهوم ، يقول المؤلفان ان غلاة اليوم يعتمدون على المتشابهات في تكفير الأمة واستحلال دمائها ولو ردوا المتشابه الى المحكم لحكموا بالعدل والحق.
5- عدم التعلم على أيدي العلماء : ومن أسباب ضعف البصيرة عند البعض أن الواحد منهم لم يتلق العلم من أهله وشيوخه المتخصصين بمعرفته ، والمؤلفان يشيران بذلك الى اعتماد البعض على بضاعة الكتب والصحف والقراءة من غير المصادر والاصول الشرعية مما يجعلهم يسيئون الفهم ويستبطون احكامهم من غير أهل العلم والعلماء الثقات .
2- ضعف البصيرة بالواقع والحياة والتاريخ وسنن الكون :
إن أهم أسباب الغلو في الدين بعد ضعف البصيرة فيه ، هو عدم الوعي بالواقع والحياة ( فتجد أحدهم يريد ما لا يكون ويطلب مالا يوجد ويتخيل ما لا يقع ويفهم الوقائع على غير حقيقتها ويفسرها وفقا لأوهام رسخت في رأسه لا أساس لها من سنن الله في خلقه ولا من احكامه في شرعه ، وهو يريد ان يغير المجتمع كله ، افكاره ومشاعره وتقاليده واخلاقه وانظمته الاجتماعية والسياسية والاقتصادية بوسائل واهية واساليب خيالية . ص (65).
إن معرفة التاريخ والوعي بالواقع لا يعني القراءة السردية ، بل الوعي والعبرة والنفاذ الى سنن الله فيها يقول الله تعالى : ( أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو أذان يسمعون بها فإنها لا تعمي الأبصار ولكن تعمي القلوب التي في الصدور ) فإن التاريخ هو مخزن العبر ومعلم الأمم ، فكما أن الفرد يتعلم من احداث أمة الغد ، فان الأمة ايضا تأخذ من ماضيها لحاضرها ، وتستفيد من صوابها وخطئها ومن انتصاراتها وهزائمها . ص(66) .
الفصل الرابع : الاسلام بين الغلو والتقصير .
يتسائل المؤلفان قبل نهاية الباب الأول عن قضية المسلمين الثانية ما يرونها وهي التقصير من جانب المسلمين الذي يتجلى في تفريط المسلمين في دينهم وضياع مقدساتهم وتنازعهم على الجاه والسلطان . ويقولان : ( ان الغلو والتقصير وجهان لعملة واحدة ، والافراط والتفريط صورتان لشئ واحد ، وكلاهما خطر على الاسلام ، وكلاهما ضار بالدين ، فالدين وسط بين الافراط والتفريط والغلو والتقصير : ( وكذلك جعلناكم أمة وسطا ) ص. (75) .
يؤكد المؤلفان هذه الوسطية في السطورالتالية : ( وعلى كل من يريد أن ينهج منهج الاسلام ويقتفى صراطه المستقيم فعلية أن يسلك سلوكهم يقتفى آثار أهل السنة والجماعة ، وعلى مسلمي اليوم ان يقتفوا آثار السلف الصالح الذين نهجوا منهج الحق وتشربوا وسطية الاسلام وعدله اقتفوا صراطه المستقيم ، فلم يطغوا في الميزان ولم يخسروا فيه ، ولكنهم اقاموا الوزن بالقسط والحق ) ص ( 77).
فعلى المسلم أن يجمع خيري الدنيا والآخرة وصلاحهما ويتخذ أسباب الدنيا بحوارحه ويتوكل على الله بقلبه ، فالتوكل عمل القلب واتخاذ الأسباب عمل الجوارح ولا تعارض بينهما وان يكون وسطا بين المقدسين للعقل الذين يقدمونه على النقل الصحيح ان كان هناك تعارض بينهما ومن المغيبين للعقل تماما ولو كان في فهم النص وشرحه وتوضيحه وبيان ما غمض منه والوقوف على حكمةالله الخفية فيه ، فللنص الصحيح القاطع مكانه الصحيح المقدم على العقل وللعقل مكانه السليم في فهم النص وشرحه واستنباط حكمته وعلته مع ان العقل السليم السديد لا يتعارض ابدا مع النص الصحيح وان يكون وسطا بين الذين يغفلون مقاصد الشريعة الكلية بدعوى مراعاة النصوص ) ص( 78)
ويختتم المؤلفان هذا الباب بقولهما : ( ان الدين يضيع بين غلو المغالين وتقصير المقصرين ، وخذ بهدى نبيك الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم في كل وقت وحين ) .
الباب الثاني : بدعة التكفير والرد عليها :
الفصل الأول : الغلو في تكفير عصاه المسلمين :
يتحدث المؤلفان عن الافراط والتفريط ويحثان المسلمين على انتهاج المنهج الوسطي وان لا ينظر المسلم للناس بعيدا عن هذا المنهج ولا يتجاوز حدود الشرع والدين في حكمه عليهم ، والحديث هنا عن بعض نفر قليل ينتسب الى الحركة الاسلامية وهي منهم براء ، غالوا وتشددوا بغير حق في الحكم على الناس فأخرجوا اهل الاسلام من الملة وحكموا عليهم بالكفر نتيجة لشبهة أو هوى أو تقليد لضال مضل أو لغير ذلك من الأسباب ) ص. (90) .
المبحث الأول : الآثار السلبية للغلو في تكفير عصاة المسلمين .
المطلب الأول : المفاسد المترتبة على تكفير المسلمين :
يرى المؤلفان أن من يحكم على مسلم بالكفر بغير حق يقع في بعض الأمور منها :
أولاً : إن من يحكم على مسلم بالكفر يقع تحت الوعيد الشديد لمن نسب مسلماً إلى الكفر ، فقد قال رسول الله صلى الله عليه و سلم :إذا قال الرجل لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما فإن كان كما قال و الا رجعت إليه . و في رواية عن ثابت بن الضحاك :" و من رمى مؤمناً بكفر فهو كقتله ". و في رواية عنه :" و من قذف مؤمناً بكفر فهو كقاتله ".
ثانياً : ان تكفير المسلم بغير حق إهدار لقيمة العدل الذي يستوجب في أدنى صوره أن يكون من يحكم بالتكفير مؤهلاً لذلك وإن يتاح لمن ينسب إلى الكفر حق الدفاع الشرعي عن النفس و رد المظالم .
ثالثاً : إن تكفير المسلم يؤدي إلى تمزيق المجتمعات وبذر الخلاف بين الناس لما يترتب على ذلك من حل الدماء والأموال والتفريق بين الزوجين وقطع ما بينه وبين المسلمين في الإرث والغسل عند الموت والصلاة والدفن .
رابعاً : تكفير المسلمين يثير الفوضى في المجتمع ويفتح الباب أمام الجهال ليعيثوا فساداً بين الناس .
خامساً : الحكم على بعض عصاة المسلمين بالكفر دون وجه حق يعني إغلاق باب الرجاء وفتح باب الياس والقنوط وربما التمادي في المعصية .
المطلب الثاني : أصل بدعة الكفر :
يرجع المؤلفان أصل بدعة التكفير الى الخوارج و ما نتج عنها في فجر الاسلام وما تبع ذلك من مآسي كثيرة ويستشهدان بقول الشيخ القرضاوي: " وهذا ما وقع فيه الخوارج في فجر الاسلام والذين كانوا من أشد الناس تمسكاً بالشعائر التعبدية صياماً وقياماً وتلاوة القرآن ولكنهم أتوا من فساد الفكر لا من فساد الضمير وزين لهم سوء عملهم فرأوه حسناً وضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً وقد وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم :"يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم " و ذكر علامتهم " يقتلون أهل الاسلام و يدعون أهل الأوثان " ص 101 .
المبحث الثاني : الرد على من يكفر عصاة المسلمين :
لقد حذر الني صلى الله عليه و سلم من الاتهام بالكفر :" من قال لأخيه يا كافر ، فقد باء بها أحدهما وقد صح من حديث أسامة بن زيد أن من قال : لا اله الا الله فقد دخل الاسلام و عصمت دمه وماله ، وإن من قالها خوفاً أو تعوذاً من السيف فحسابه على الله و لنا الظاهر و لهذا أنكر النبي صلى الله عليه وسلم غاية الإنكار على أسامة حين قتل الرجل في المعركة بعد أن نطق بالشهادة و قال : أقتلته بعد أن قال لا إله إلا الله ؟ قال : إنما قالها تعوذاً من السيف ، قال : هل شققت قلبه ؟ ما تصنع ب" لا إله الا الله " قال أسامة : فما زال يكررها حتى تمنيت أني أسلمت يومئذ . ص102.
ويأتي المؤلفان إلى توضيح بعض المصطلحات وذلك لأن ما دفع المغالين في تكفير الناس هو الخلط في فهمها الايمان.
الايمان في اللغة التصديق واصطلاحاً عند أهل السنة والجماعة قول باللسان وتصديق الجنان وعمل بالأركان . ويرى بعض الحنفية أنه التصديق وأكثر الحنفية على أنه التصديق بكل ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم مع الاقرار باللسان ، واهل السنة والجماعة يعبرون عن تعريفهم للإيمان بأنه قول وعمل .
ويذكر المؤلفان رأي الحافظ بن حجر في الأيمان عند أهل السلف و يلخصانه في :
أ- أن أهل الســنة يعنون بالإيمان إعتقاد القلب ونطق باللسان وعمل بالأركان.
ب- هناك من الأعمال ما ينقص أصل الإيمان تركها مثل اسـتحلال ترك الواجبات وهناك من الأعمال ما هو شرط لكمال الإيمان وليس صحته ولهذا الإيمان عند أهل السنة يزيد بالطاعة و ينقص بالمعصية .
ج- أفعال قد تدل على كفر فاعلها كالسجود للصنم .
ولكن بما يدخل الكافر الإسلام ؟ الكافر إنما يدخل الإسلام ويصبح في عداد المسلمين بمجرد نطقه بالشهادتين وقبل أن يؤدي الصلاة أوالزكاة أوغيرها ، إن العبادات لا تقبل إلا من مسلم وإنما يكفي أن يقر بالفرائض ويلتزم بها وإن لم يؤدها بالفعل وهذه الشهادة هي التي تعصم دم الإنسان وماله كما في الحديث" فإذا قالوها فقد عصموا مني دمائهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله " . ص 109
الفرق بين الإيمان و الإسلام :
الخلط بين الإيمان والاسلام يؤدي الى الخلط في الحكم على الناس فسر النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان بأعمال القلب "تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وأن تؤمن بالقدر خيره وشره " . وفسر الاسلام بأعمال الجوارح "أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت" وقد يطلق الاسلام في موضع آخر يراد به أيضاً الدين كما في حديث " الاسلام أن يسلم قلبك لله ويسلم المسلمون من لسانك ويدك " . وحديث " أحب للناس ما تحب لنفسك تكن مسلماً " .
الكفر و معناه الكفر لغة الستر وشرعاً تكذيبه صلى الله عليه وسلم في شيء مما جاء به من الدين ضرورة . والكفر خمسة انواع : كفر تكذيب و كفر استكبار وإباء مع التصديق وكفر إعراض وكفر شك وكفر نفاق وقد يطلق الكفر بمعنى الردة كما في قوله تعالى " ومن يرتد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النارهم فيها خالدون " وقد تطلق كلمة الكفر على بعض المعاصي العملية التي لا تحمل إنكاراً ولا جحوداً ولا استحلالاً ولا تكذيباً لله ورسوله ولم يقف الغلاة في التكفير عند الخطأ في تحديد مفهوم الايمان إنما أضافوا اليه وبنوا عليه خطايا عديدة دفعت بهم الى هاوية سحيقة وكانت أولى هذه الخطايا أنهم ذهبوا الى أن كل ما سماه الله ورسوله كفراً في نصوص القرآن والسنة هو من الكفر المخرج عن الملة الذي يوجب خلود صاحبه في النار ولم ينتبهوا إلى أن هذا الإطلاق لا يصح فأهل السنة والجماعة عبر استقرائهم لكل نصوص الكتاب والسنة قرروا قاعدتهم الذهبية في هذا الشأن وهي أن ما سماه الله ورسوله كفراً ليس بالضرورة أن يكون من الكفر المخرج عن الملة أنما قد يكون كفراً أصغر لا يخرج فاعله من الملة ويحمل على كفر النعمة أو كفر الأخوة ونحو ذلك و قد يكون ما سمي كفراً في الكتاب و السنة كفراً أكبر يخرج فاعله من الملة " ص 113 .
ويشير المؤلفان إلى قول الشيخ حافظ حكمي حول مسالة الكفر " ليس كل فسق يكون كفراً ولا كل ما يسمى كفراً و ظلماً مخرجاً من الملة حتى ينظر إلى لوازمه وملزماته، وذلك لأن كلاً من الكفر والظلم والفسوق والنفاق جاءت في النصوص قسمين : أكبر مخرج من الملة لمنافاته أصل الدين بالكلية وأصغر لا ينقص الإيمان وينافي كماله ولا يخرج صاحبه منه فكفر دون كفر وظلم دون ظلم وفسق دون فسق ونفاق دون نفاق " ص 114 .
وينظر المؤلفان إلى تقسيم الكفر إلى كفر أكبر وكفر أصغر إذ يجمع علماء السلف على حمل الكفر المذكور في الآيات التالية على الكفر الأكبر المخرج من الملة " قل ياأيها الكافرون ،لا أعبد ما تعبدون ، ولا أنتم عابدون ما أعبد " و قوله تعالى :" لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم " وقوله تعالى:"إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون " . ومن أمثلة الكفر الأصغر كما جاء في الحديث الصحيح "يا معشر النساء ... إلى آخر الحديث . وقوله صلى الله عليه وسلم " سباب المسلم فسوق و قتاله كفر " إذ أن القتال الذي جرى بين على بن أبي طالب و معاوية ابن أبي سفيان يعتبر من الكفر الأصغر إذ أن العديد من الذين قتلوا في الجانبين من المسلمين الذين شهد لهم الرسول صلى الله عليه و سلم بالجنة .
ويقول المؤلفان أن هناك اختلافاً بين أهل السنة في ما سمي كفراً من بعض النصوص هل هو كفر أكبر أم أصغر ومن ذلك قوله صلى الله عليه و سلم " بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة " فمن العلماء من حمل ذلك على الكفر الأكبر وذهب جماهير السلف والخلف ومالك والشافعي إلى عدم كفر تارك الصلاة تكاسلاً وعدوة فاسقاً ومن أمثلة الخلاف بين الكفرين تفسير قوله تعالى " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون " إذ أن من العلماء من جعل الكفر المذكور في الآية على الكفر الأصغر ومنهم من جعلها على الكفر الأكبر ، ومنهم من قال أنها تحتمل المعنيين . ويخلص المؤلفان إلى : و يبقى أمر يجب الانتباه اليه و هو أن من يقع في الكفر الأكبر المخرج من الملة سواء كان حاكماً أو محكوماً لا يصح تكفيره إلا بعد إقامة الحجة الواضحة التي بمقتضاها يتم التأكد من ثبوت شروط التكفير وانتفاء موانعه و هذا أمر يختص به أهل العلم و الاختصاص من المجتهدين فلينتبه لذلك و ليعض عليه بالنواجذ .
الشرك :
كذلك ينقسم إلى شرك أكبر و هو دعاء إله أو آلهة مع الله أو دون الله و فيه قوله تعالى :" ان الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك " وشرك أصغر مثل قوله صلى الله عليه وسلم" من حلف بغير الله فقد أشرك " وقوله : " من علق – أي - تميمة فقد أشرك " .
النفاق :
النفاق الأكبر هو نفاق العقيدة وهو أن يبطن الكفر ويظهر الايمان خداعاً وكذباً وهو المذكور في أوائل سورة البقرة : " ومن الناس من يقول آمنا بالله واليوم الآخر وما هم بمؤمنين ، يخادعون الله والذين آمنوا وما يخادعون إلا أنفسهم وما يشعرون ".
وهناك النفاق الأصغر وهو نفاق العمل بمعنى أن يتصف المرء المسلم بصفات المنافقين و أخلاقهم و لكن قلبه مؤمن بالله ورسوله واليوم الآخر وهذا ما جاءت به الأحاديث مثل قوله صلى الله عليه و سلم :"آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا أؤتمن خان " . و يقول المؤلفان أن الحكم على شخص بعينه بالكفر الأكبر وأنه من أهل الوعيد أمر خطير كما وضحنا، لذا أوضح كثير من العلماء خطورة هذا الأمر وجعلوا له ضوابط وشرائط لا بد من انطباقها على الشخص المعين وعلى من يحكم عليه بذلك . ص 124 .
ولأن الشخص المعين يمكن أن يكون مجتهداً مخطئاً مغفوراً له ويمكن أن يكون له إيمان عظيم وحسنات أوجبت له رحمة الله أوقبل موته استشعر جرمه وخشي لقاء ربه كما غفر للذي قال" إذا مت فاسحقوني ثم ذروني، ثم غفرالله له لخشيته ..ص125
ما حكم مرتكب الكبيرة ؟ يقول الشيخ ابن أبي العز الحنفي في شرح الطحاوية قائلاً :" الجواب أن أهل السنة متفقون جميعاً على أن مرتكب الكبيرة لا يكفر كفراً ينقل عن الملة بالكلية كما قالت الخوارج ، إذ لو كفر كفراً ينقل عن الملة لكان مرتداً يقتل على كل حال ولا يقبل عفو ولي القصاص ولا تجري الحدود في الزنا والسرقة وشرب الخمر وهذا القول معلوم بطلانه وفساده بالضرورة من دين الاسلام . ومتفقون على أنه لا يخرج من الإيمان والاسلام ولا يدخل في الكفر ولا يستحق الخلود مع الكافرين كما قالت المعتزلة فإن قولهم باطل أيضاً إذ قد جعل الله مرتكب الكبيرة من المؤمنين قال الله تعالى :" يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتل " إلى قوله تعالى :" فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف " . فلم يخرج القاتل من الذين آمنوا وجعله أخاً لولي القصاص والمراد أخوة الدين بلا ريب . ص 128 .
وقال تعالى :" وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بين أخويكم " . ونصوص الكتاب والسنة والاجماع تدل على أن الزاني والسارق والقاذف لا يقتل بل يقام عليه الحد فدل على أنه ليس بمرتد وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :" من كانت عنده لأخيه مظلمة ... إلى آخر الحديث . فثبت أن الظالم يكون له حسنات يستوفي المظلوم منها حقه .
وقال الله تعالى :" إن الحسنات يذهبن السيئات " فدل ذلك على أنه في حال مساءته يعمل حسنات تمحو السيئات , والمعتزلة موافقون للخوارج هنا في حكم الآخرة فإنهم وافقوهم على أن مرتكب الكبيرة مخلد في النار لكن الخوارج قالت نسميه كافراً ، وقالت المعتزلة نسميه فاسقاً فالخلاف بينهما لفظي فقط وأهل السنة أيضاً متفقون على أنه يستحق الوعيد المترتب على ذلك الذنب كما وردت به النصوص ص 129 .
ويستدل المؤلفان في حكم مرتكب الكبيرة من قول النووي :" وأما من مات وله معصية كبيرة ومات من غير توبة فهو في مشيئة الله تعالى فإن شاء عفى عنه وأدخله الجنة أولاً وجعله كالقسم الأول :" الذين يدخلون الجنة لأنهم لم يذنبوا أو تابوا " وإن شاء عذبه بالقدر الذي يريده سبحانه وتعالى ثم يدخله الجنة فلا يخلد في النار أحد مات على التوحيد ولو عمل من المعاصي ما عمل ، كما أنه لا يدخل الجنة أحد مات على الكفر ولو عمل من أعمال البر ما عمل ، هذا مختصر جامع لمذهب أهل الحق في هذه المسألة .
وقد تظاهرت أدلة الكتاب والسنة وإجماع من يعتد به من الأئمة على هذه القاعدة وتواترت بذلك نصوص تحصل العلم القطعي فإذا تقررت هذه القاعدة حمل عليها جميع ما ورد من أحاديث الباب وغيره فإذا ورد حديث في ظاهره مخالفة وجب تأويله ليجمع بين نصوص الشرع . ص 130 .
ويقول المؤلفان وهكذا سقنا هذه الأقوال والأدلة المختصرة لنبين أن المعاصي ليست كلها كفراً مخرجاً من الملة وأن مرتكب الكبيرة لا يكفر إن مات على التوحيد وهناك من يحمل فكراً ضالاً ومنحرفاً يستندون على حديث :" لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن " ( لنفي الإيمان عن الزاني ) و للرد على هؤلاء يشير المؤلفان إلى قول النووي :" قوله صلى الله عليه وسلم "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهومؤمن " فالقول الصحيح الذي قاله المحققون : إن معناه لا يفعل هذه المعاصي وهو كامل الإيمان وهذا من الألفاظ التي تطلق على نفي الشيء ويراد نفي كماله ومختاره " ص 131 .
ويقول عز و جل :" إن الله لا يغفرأن يشرك به ويغفر ما دون ذلك " مع إجماع أهل الحق على أن الزاني والسارق والقاتل وغيرهم من أصحاب الكبائر غير الشرك لا يكفرون بذلك بل هم مؤمنون ناقصوا الإيمان أن تابوا سقطت عقوبتهم وإن ماتوا مصرين على الكبائر كانوا في المشيئة فإن شاء الله عفا عنهم وأدخلهم الجنة أولاً وإن شاء عذبهم ثم أدخلهم الجنة .
والكفر المخرج عن الملة لا تزول عقوبته الآخروية إلا بالتوبه ، أما عقوبة الذنوب في الآخرة فقد دلت نصوص الكتاب و السنة على أنها تزول عن العبد لعدة أسباب : ( التوبة ـ الاستغفار - الحسنات الماحية – الدافع للعقاب – ما يعمل للميت من أعمال – شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم – المصائب التي يكفر الله بها الخطايا في الدنيا – ما يحصل في القبر من فتنة والضغطة والروعة- أهوال يوم القيامة و شدائدها – رحمة الله تعالى و عفوه و مغفرته بلا سبب من العباد ) .
ويختتم المؤلفان هذا الفصل بقولهما " والآيات و الأحاديث تتواتر لتؤكد أن الله يغفر الذنوب جميعاً دون الشرك من غير توبة للعبد متى شاء ذلك سبحانه وتؤكد سعة رحمة الله رب العالمين التي وسعت كل شيء فليت هؤلاء الذين يتسرعون ويحكمون جهلاً على عصاة الموحدين بالكفر ليتهم تدبروا هذه النصوص وفهموا مقاصد الشريعة وتخلقوا بأخلاق الله الذي جعل رحمته تغلب غضبه " لما خلق الله الخلق كتب في كتاب فهوعنده فوق العرش : إن رحمتى تغلب غضبي "ص 139 .
بدعة تكفير جهاد المسلمين و الرد عليها
يقدم المؤلفان لهذا الباب بقولهم " لقد تورط بعض نفر ممن ينتسبون إلى بعض فصائل الحركة الإسلامية في قضية قد حسمها الشرع ودل عليها العقل وأدركها الفطر السليمة ألا وهي قضية كون عارض الجهل مانعاً من لحوق حكم الكفر لمن أتى فعلاً كفرياً وهو يجهل أنه كفر، وهو لا يريده ولو علم أنه كفر لما أقدم عليه ولما أقترفه إنما فعله جاهلاً بحقيقة أمره بل يكون معتقداً بفعله هذا أنه يتقرب إلى الله كأولئك الجهال الذين يفعلون أفعالاً شركية عند قبور الصالحين وعدم اعتبار عارض الجهل مانعاً لحقوق حكم بالكفر بفاعله غلو في الدين وتشدد في غير موضعه ومخالفة لعقيدة أهل السنة والجماعة الذين يعتقدون أن من أتى كفراً لا يكفر حتى تقام عليه الحجة ويرون أن الشخص المعين الذي يرتكب كفراً لا يحكم بكفره إلا بعد ثبوت شروط إنتفاء موانع ص 143 .
ويقسم المؤلفان الموانع التي تتتسب انتفاء حكم الكفر عن فاعله إلى :
أ- العوامل التي تسبب إنتفاء شروط العقل
1- عارض الجنون .
2- عارض الصغر وذلك لقوله صلى الله عليه و سلم " رفع القلم عن ثلاثة النائم حتى يستيقظ و عن الصبي حتى يشب و عن المجنون حتى يعقل "
3- عارض السكر .
4- عارض العته .
ب- الموانع التي تسبب انتفاء شروط القصد .
1- عارض الإكراه .
2- عارض الهزل .
3- عارض الخطأ .
4- عارض التأويل .
ج- العوارض التي تسبب انتفاء شروط العلم .
عارض الجهل : إذا أتى المسلم الجاهل فعلاً أو قولاً أو اعتقد إعتقاداً هو كفر ينقص الإيمان وهو لا يعرف ذلك فإنه معذور بجهله ولا يكفر حتى تقام عليه الحجة وقد نبه الإمام العظيم شيخ الإسلام ابن تيمية على ثبوت شروط وانتفاء موانع باعتبارها من أهم جوانب قيام الحجة .
أولاً : الأدلة من الكتاب
أ- أدلة تدل على عدم لحوق الوعيد الأخروي إلا بعد بلوغ العلم : قال تعالى " وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمراً حتى جاؤوها فتحت أبوابها و قال لهم خزنتها ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم و ينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا بلى " .
ب- أدلة تدل على تعذيب و إهلاك ا لكافرين في الدنيا إلا بعد علمهم بدعوة الرسل قال تعالى " ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولاً فنتبع آياتك و نكون من المؤمنين " .
ج- أدلة تبين عدم مؤاخذة أهل الكتاب إذا لم تبلغهم دعوة محمد صلى الله عليه و سلم و كذلك أهل الفترة قال تعالى " " و ما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً " و من الأدلة التي تبين اشتراط العلم قوله تعالى " و ما كان الله ليضل قوماً بعد اذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون إن الله بكل شيء عليم " .
أدلة عامة تبين اشتراط العلم .
قال الله تعالى " و ما كان الله ليضل قوماً بعد اذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون إن الله بكل شيء عليم " .
ويذكر المؤلفان بعض الأحاديث التي توضح عذر الله لمن لم تبلغه الرسالة أو لم تبلغه الدعوة و كذلك من لم يبلغه حكم أو أمر عقيدي قد يخرج به من الملة . مثل حديث أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال :" قال رجل لم يعمل حسنة قط لأهله ..." رواه البخاري و مسلم . و حديث أبي واقد الليثي قال :" خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى حنين و نحن حدثاء عهد بكفر ... " رواه الترمذي و المعجم الكبير للطبراني ص 151 .
كما يشير المؤلفان إلى مجموعة أقوال العلماء من إثبات عارض الجهل بالنسبة لأهل القبلة منها : قال شيخ الاسلام ابن تيمية :هذا مع أني دائماً ومن جالسني يعلم ذلك مني إني من أعظم الناس نهياً عن أن ينسب معين إلى تكفير و تفسيق ومعصية إلا إذا علم أنه قد قامت عليه الحجة الرسالية التي من خالفها كان كافراً تارة وفاسقاً أخرى وعاصياً أخرى ، وإني أقرر أن الله قد غفر لهذه الأمة خطأها وذلك يعم الخطأ في المسائل الخبرية القولية و الرسائل العلمية قال أبن العز : " ثم إذا كان القول في نفسه كفراً قيل لأنه كفر والقائل له لا يكفر إلا بشروط وانتفاء الموانع " .
الدليل العقلي و الأصولي
يدل صحيح العقل على اشتراط العلم كي يلحق حكم الكفر لمن أتى ما يستوجبه ، ويوضح ذلك ما يلي :
1- ان الإنسان يولد لا يعلم شيئاً كما قال تعالى :"الله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً وجعل لكم السمع والأبصاروالأفئدة لعلكم تشكرون "
2- ان الله ارتضى لعباده منهجاً وديناً قال تعالى :" و رضيت لكم الاسلام دينا " .
3- و لكي يعلم العباد أوامر الله ونواهيه فلا بد من ارسال الرسل و انزال الكتب .
4- ولا بد أن تصل رسالة الرسل إلى عباد الله لكي يعرفوا الحلال والحرام ، فمن لم يصله بلاغ الرسل فإنه لن يعلم الحلال من الحرام ولن يعرف صفات الله وأسمائه ولا يعتقد اعتقاد صحيح في الملائكة والكتب السماوية واليوم الآخر لأننا لو كلفناه أن يعرف الحق دون بلاغ من رسول ووصول هذا البلاغ له لكلفناه بالمستحيل لذلك قررعلماء الأصول أن شروط العلم من الشروط الضرورية لتكليف العبد فيعلم هذا الأمر علماً واضحاً وأنه من عند الله . ص 155
ويخلص المؤلفان إلى أن شيخ الإسلام ابن تيمية قد وضع قاعدة لا بد من لزومها قبل الإقدام على تكفير الشخص المعين منهم – أهل القبلة – وهي تشمل أمرين :
أولاً : ضرورة النظر إلى القول أوالفعل والتأكد من كونه مخرجاً من الملة وأنه ليس يقبل التقسيم بمعنى أن يكون كفراً باعتباره وغير كفر باعتبار آخر .
ثانياً : النظر في حالة الشخص الذي صدر منه القول أو الفعل لأنه قد يكون القول أو الفعل كفر مخرجاً من الملة لكن الشخص الذي صدر منه لا يكفر بذلك إذ قد يكون قد عرض له مانع يمنع لحوق الكفر به كالجنون و الإكراه . ص 156 .
ثم يلقي المؤلفان الضوء على ذلك الأمرين بتحديد الضوابط المعينة على ما هو كفراً مخرجاً من الملة من أقوال وأفعال وإعتقادات ثم النظر في حال الشخص المعين للتحقق من قيام موجب التكفير أولا ويقولان في نهاية هذا الفصل " وبعد فإن المسارعين إلى تكفير جهال المسلمين الذين قد يدفعهم جهلهم إلى الوقوع في أعمال شركية دونما أن يتحققوا من ثبوت الشروط وانتفاء الموانع التي حددها الشرع قبل الحكم على فاعل الكفر بالخروج من الملة إن هؤلاء قلة غالوا في دينهم بغير حق وتشددوا في غير موضع تشدد وحري بهم أن يتخلقوا بأخلاق النبي صلى الله عليه وسلم الرحيم بأمته الرؤوف بهم . ص 162
الفصل الثالث : الغلو في تكفير المسلمين بالموالاة الظاهرة .
يقسم المؤلفان موالاة الكفار الى قسمين :
1- موالاة باطنة .
2- موالاة ظاهرة .
فالموالاة الباطنة هي : الميل القلبي إلى الكفار حباً في عقيدتهم ورغبة في نصرتهم على المسلمين كفعل المنافقين مع اليهود في زمن النبي صلى الله عليه و سلم . وهذا النوع يخرج صاحبه من ملة الإسلام لقوله تعالى :" ومن يتولهم منكم فهو منهم " .
والموالاة الظاهرة هي: نصرة الكفار أومساندتهم لأمر أومصلحة دنيوية مع استقرار الإيمان بالقلب ومحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم كفعل حاطب ابن أبي بلتعة رضي الله عنه مع المشركين قبل فتح مكة وهذا الفعل لا يخرج صاحبه من الملة وإنما يعد ذلك معصية فقط وذلك لأنه لا ينقض الإيمان وإنما ينقصه ويقول المؤلفان :" وبعد أن أوضحنا نوعي الموالاة نتجة إلى النفر من شباب الحركة الإسلامية الذين غالوا في هذه المسألة فحكموا على كل من أتى فعلاً من أفعال الموالاة بالكفر الأكبر دون النظر في حاله ودونما تمحيص لموالاته هل هي ظاهرة أم باطنة فهم لم يفرقوا بين النوعين وإنما جعلوها واحداً" ... ص166.
وفي هذا السياق يبحث المؤلفان في الرد على من ادعى كفر موظفي الحكومة :" ثم عوداً إلى هؤلاء الذين حرموا العمل في الوظائف الحكومية وكفروا شاغليها فإنهم قد أخطئوا أوخلطوا لأن الوظائف لم تكن يوماً من الأيام كافية للحكم على الناس وعلى معتقداتهم " ويقسم المؤلفان حالات الوظائف إلى فئة تعمل من أجل مصلحة دنيوية وعملها في حدود الحلال شرعاً والمشروع من الدين . وفئة تعمل عملاً قد لا تستطيع فيه تحقيق العدل التام لكنها تشغله مما يخفف الظلم الواقع على المسلمين أويحقق مصلحة للإسلام أوالمسلمين وأخرى من يقع في عملها ظلم وجور ويرتكب مخالفات شرعية لطبيعة العمل لكنها تقع في هذه الأعمال ومن يعمل في ذلك لا يكره الإسلام ولا يتمنى علو الكفر على الإيمان بل قد يلتبس عليه أحياناً الحق بالباطل ، أويأتي المحظور من أجل مصلحة دنيوية . وهناك فئة أخرى تعمل كسابقتها لكن الذي يعمل يختلف في أنه يحب الكفر ويكره الإسلام وظهرت دلائل هذا الحب في صورة أفعال وأقوال ظاهرة فإنه لا يستدل على حال القلب إلا بفعل الظاهر، فهؤلاء لا يشك في كفرهم وخروجهم من دائرة الإســـلام ويقول المؤلفان :" هذه حالات متباينة لكل واحدة منها حكمها الذي يناسبها أما تعميم الأحكام واطلاقها هكذا دونما النظر إلى حال كل واحد وكل فرد فهو كارثة عظمى إذ أنه سيقع تحت طائلة هذا التعميم مسلمون كثيرون براء من هذا الحكم الذي صدر عليهم بدون وجه حق . إن خطأ من وقع في تكفير بعض المسلمين بحجة الموالاة الظاهرة خطأ بين لأن الموالاة المكفرة هي الموالاة الباطنة ... " ص 172 .
ويأتي المؤلفان إلى الفرق بين الموالاة الممنوعة والمخالفة المشروعة ويقولان :" وقد يظن البعض أن عيادة المريض الكافر أو النصراني هي من الموالاة وقد يعتقد فريق ثالث أن إهداء المسلم للكافر أوالنصراني أو تقبل هديته أو إكرامه أو التصدق عليه نوع من الموالاة لهم أيضاً ، وقد يلتبس على آخرين فيعتقدون أن تهنئة المسلم للكافر بإنجاب ذرية أو نجاح في كلية أو زواج و نكاح أو قدوم من ســــفر أو شفاء من مرض ويعتقدون أن كل ذلك نوع من الموالاة وغلط هؤلاء جميعاً ، فكل هذه الأبواب وأمثالها لا تدخل تحت مسمى المخالقة بالحسنى ، فالاسلام جاء بأعظم الأخلاق وأكرمها وأسماها وبعث الرسول صلى الله عليه وسلم ليتم مكارم الأخلاق كما أخبر هو نفسه :إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق " ص 177 .
ويشير المؤلفان إلى قبول النبي صلى الله عليه وسلم دعوة يهودي وإلى عيادة يهودي آخر في بيته وكذلك إغاثته مشركي قريش لما أصابتهم المجاعة وكل ذلك يوضحه قوله صلى الله عليه وسلم في حديثه :" خالق الناس بخلق حسن " .
يستعرض المؤلفان بعد ذلك صوراً من المخالقة الحسنة الجائزة مع الكفار والتي يظنها البعض خطأً أنها موالاة محرمة :
أولاً :
عيادة المريض الكافر يدل عليها حديث أنس بن مالك في صحيح البخاري قال :" كان غلام يهودي يخدم النبي صلى الله عليه وسلم فمرض فأتاه الرسول صلى الله عليه و سلم يعوده ... " قال أبو مسعود الأصبهاني: سألت أحمد بن حنبل عن عيادة القرابة و الجار النصراني قال نعم .
ثانياً :
التهنئة بالزواج والإنجاب والعودة من السفر وما شابهه . يقول المؤلفان أن ذلك يجوز لما ذكره ابن القيم في كتابه أحكام أهل الذمة " و يهنئهم بزوجة أو ولد و لا يهنئهم بشعائر الكفر .." .
ثالثاً :
إنفاق المسلم على قرابته من أهل الذمة من يهودي ونصراني ، قال ابن القيم رحمه الله :" الذي يقوم عليه الدليل وجوب الإنفاق وان اختلف الدينان لقوله تعالى : " ووصينا الإنسان بوالديه حسنا وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به فلا تطعهما إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون " . وقد ذم الله تعالى قاطعي الرحم لقوله :" واتقوا الله الذي تسائلون به و الأرحام " ، وفي الحديث " لا يدخل الجنة قاطع " .
رابعاً :
تشييع جنازة الكافر : يشير المؤلفان إلى مجموعة من الأحاديث منها : عن أبي وائل قال : ماتت أمي نصرانية فأتيت عمر فسألته فقال : اركب في جنازتها وسر أمامها . وعن سعيد بن جبير قال : سألت ابن عباس رضي الله تعالى عنه عن رجل مات أبوه نصرانياً قال : يشهد و يدفنه .
وقال محمد بن موسى : قلت لأبي عبدالله الإمام أحمد بن حنبل : يشيع المسلم جنازة المشرك : قال نعم .
خامساً :
جواز تعزية الكافر بما لا يخالف الشرع ولا يكون في مكان عبادتهم .
عن هريم قال سمعت الأجلح عزى نصرانياً فقال : عليك بتقوى الله والصبر .
سادساً :
مشاركتهم في العمل المباح : قال اسحق بن ابراهيم : سمعت أبا عبدالله الإمام أحمد بن حنبل " وسئل رجل يشارك اليهودي والنصراني ، قال : يشاركهم لكن يلي هو البيع و الشراء لأنهم يأكلون الربا ويستحلون الأموال .
ويقول المؤلفان بعد كل ذلك " ... إن الدين الإسلامي دين ينفتح على الآخرين لأنه دين قوي لا يخشى شيئاً من انفتاحه على الآخرين و التعامل معهم .
والمسلم كذلك قوي بإيمانه وقوي بعقيدته السليمة الواضحة التي لا لبس فيها ولا غموض وقوي بشريعته الوسطية السمحة التي تجمع خيري الدنيا والآخرة . ولذلك فإن المسلم بحق لا يخشى شيئاً من انفتاحه على أهل الأديان الأخرى يعطيهم النافع من دينه ودنياه ويأخذ منهم الصالح في دنياهم يقترب منهم دون وجل لأنه القوي ، يحسن اليهم ويخالقهم أحسن مخالقة " ص188 .
وفي ختام هذا الكتاب يقول المؤلفان بعد أن تناولا قضيتي الغلو في الدين وبدعة التكفير ، أن على كل مسلم أن يراعي أمرين هامين و هما :
1- الوقوف بوجه كل من يروج لهذه البدعة المذمومة والحث على المحبة والمودة والإخاء والتراحم بين المسلمين .
2- على المسلم أن يقدم للبشرية النموذج الصحيح للمسلم الذي يتخلق بأخلاق القرآن ويهتدي بهدي سيد المرسلين ، ويقدم الإسلام في وسطيته التي لا غلو فيها ولا تقصير ولا إفراط ولا تفريط . ص 194 .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق