مدونة مراقى الصالحين: قدر من التربية الصوفية السليمة

الأحد، 26 فبراير 2012

قدر من التربية الصوفية السليمة

وهنا لا بد من قدر من التربية الصوفية السليمة المقومة بميزان الكتاب والسنة والتي تعمل على تكوين الشخصية الربانية التي تؤثر الخالق على الخلق، والآخرة على الدنيا، وباعث الدين على باعث الهوى.
والتصوف ليس كله شرا، كما يتصور بعض الناس، والمتصوفة ليسوا كلهم ضلالا، كما يدعي من ينقصهم العلم أو العدل. بل هم كغيرهم من الطوائف كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية في رسالته عن (الفقراء) ففيهم المستقيم والمنحرف، وفيهم الظالم لنفسه، والمقتصد، والسابق بالخيرات بإذن الله.


ولا شك أننا نرفض أباطيل التصوف الفلسفي (القائل بالحلول والاتحاد)، وشطحات التصوف البدعي، وانحرافات التصوف الارتزاقي. ونريد لباب التصوف الذي كان عليه الزهاد الأوائل، كالحسن البصري والفضيل بن عياض، وإبراهيم بن أدهم، وأبي سليمان الداراني، وأبي القاسم الجنيد، وأمثالهم

إننا نريد التصوف السني الملتزم بالنهج القرآني النبوي المتوازن، والذي يعنى بـ (تقوى القلوب) قبل (أعمال الجوارح) وبروح العمل قبل صورته. وفي الحديث الصحيح: "إن الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم".

ويعنى بعلاج أمراض القلوب وسد مداخل الشيطان إليها، وجهاد أهواء النفس حتى تتهذب أخلاقها، وتتحلى بالفضائل، وتتخلى عن الرذائل.

وقد لخص بعضهم التصوف بأنه: الصدق مع الحق، والخلق مع الخلق، وهو ما يشير إليه قوله تعالى: (إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون) (النحل:128). فهم مع الله بالتقوى، ومع الناس بالإحسان.

ونقل العلامة ابن القيم عن متقدمي الصوفية قولهم: التصوف هو الخلق، فمن زاد عليك في الخلق، فقد زاد عليك في التصوف!

وعلق ابن القيم على ذلك بقوله: بل الدين هو الخلق، فمن زاد عليك في الخلق فقد زاد عليك في الدين !

وهذا صحيح، وحسبنا في ذلك الحديث النبوي الشريف: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق".
أمور أربعة ينبغي التركيز عليها

وأهم ما نركز عليه في هذه التربية أمور أربعة:

إخلاص النية

1- الأمر الأول: تصحيح النية حتى يخلص العمل لله وحده، لا يشوبه شيء من حب المال أو حب الجاه والمنزلة، والشهرة عند الناس، أو غير ذلك مما يدخل في الرغبات الخفية للأنفس.

وذلك أن (العمل الإسلامي) عبادة وجهاد، ولا تقبل العبادة إلا بنية خالصة لله تعالى: (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء) (البينة: 5).

ولا يكون الجهاد في سبيل الله إلا بتجريد القصد لله: أن تكون كلمة الله هي العليا.

والله تعالى لا يحب العمل المشترك، ولا القلب المشترك. العمل المشترك لا يقبله، والقلب المشترك لا يقبل عليه.

ينبغي أن يضع كل عامل للإسلام نصب عينيه هاتين الآيتين: (قل: إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين. لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين) (الأنعام: 162،163).

إن الدعوات لا تنتصر بطلاب الأضواء، وعباد الشهرة والظهور، بل بمن سماهم الحديث الشريف "الأبرار الأتقياء الأخفياء" الذين إن حضروا لم يعرفوا وإن غابوا لم يفتقدوا، قلوبهم مصابيح الهدى.

مراقبة الله تعالى

2- والأمر الثاني: مراقبة الله تعالى عند العمل: حتى يأخذ حقه من الإحسان والإتقان.

ولهذا حين سأل جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عن (الإحسان) قال: "الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك".

وهذا مطلوب في كل عمل ديني أو دنيوي، فإحسان العمل فريضة على كل مسلم، فإن الله كتب الإحسان على كل شيء. ولا يحفز على الإحسان شيء مثل يقينه بأن الله تعالى مطلع عليه، وناظر إليه، يسمع ويرى.

ويتأكد ذلك إذا كان العمل ذا طبيعة دينية مثل العمل في الدعوة الإسلامية والحركة الإسلامية. وهو إما فرض عين أو فرض كفاية يقوم فيه العاملون بالنيابة عن غيرهم من القاعدين والمتفرجين ـ بل والمثبطين والمتحاملين ـ من أبناء الأمة.

إن العامل في هذا الميدان لا يفتقر إلى رقابة، ولا إلى تفتيش إداري، لأنه عليه رقابة من داخل ذاته، وهو أول مفتش على نفسه. وهو يذكر أبدا قوله تعالى: (وهو معكم أينما كنتم والله بما تعملون بصير)(الحديد:4).

محاسبة النفس

3- والأمر الثالث: محاسبة النفس. فإذا كان تصحيح النية قبل العمل، والمراقبة عند العمل، فإن المحاسبة تأتي بعد العمل. وقد جاء في الحديث "الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله" . والكيس: العاقل، ومعنى (دان نفسه): أي حاسبها، كما نقله النووي عن الترمذي وغيره من العلماء.

وجاء عن عمر: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم.

وعن ميمون بن مهران: التقي أشد حسابا لنفسه من سلطان غاشم، ومن شريك شحيح.

وهذه المحاسبة للنفس تدفع بها دائما إلى الاجتهاد في تصويب الخطأ، واستكمال النقص، والتطلع إلى الكمال، وتبعد بالمرء عن الإعجاب، والغرور بعمله، والازدراء لغيره.

وهذه المحاسبة أصل من الأصول الأخلاقية والتربوية في الإسلام. ولهذا أجمع على ضرورتها المتصوفة والأخلاقيون والمربون.

والناس يرددون اليوم كلمة (النقد الذاتي) ولا حرج في استعمال الكلمة إنما الحرج في اعتبار هذا المعنى جديدا علينا، مقتبسا من غيرنا. وما هو إلا محاسبة النفس التي جاء بها قرآننا وسنتنا، وحفلت بها مصادر ثقافتنا.

التوكل على الله
4- والأمر الرابع: التوكل على الله تعالى. فهو السلاح الروحي الذي يجعل من الضعف قوة ومن القلة كثرة، وهو الذي واجه به رسل الله طغاة أقوامهم ولم يخفهم طغيانهم، ولم يزلزلهم أذاهم، بل قالوا :(وما لنا ألا نتوكل على الله، وقد هدانا سبلنا على ما آذيتمونا، وعلى الله فليتوكل المتوكلون)(إبراهيم:12).

ومعنى التوكل على الله: اتخاذه وكيلا لك: تسلم زمامك إليك، وتجعل اعتمادك عليه، كما قال تعالى:(رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا) (المزمل:9).

وذلك بعد أن تعد عدتك، وتأخذ حذرك وحيطتك، ثم تمضي وأنت موقن أن الله لن يتخلى عنك.

وليس معنى التوكل اطراح الأسباب، وإهمال السنن، وانتظار الحصاد بغير زرع، أو نمو الزرع بغير تعهد. بل التوكل ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم والرسل من قبله: بذل كل ما في الوسع، وترك النتائج لله ثقة به، ويقينا بوعده، وإيمانا بنصره.

رتب رسولنا الكريم لهجرته كل ما استطاع ترتيبه، ولكن المشركين أمكنهم الوصول إلى الغار الذي لجأ إليه، فقال أبو بكر: لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا! فقال صلى الله عليه وسلم: "ما ظنك باثنين الله ثالثهما" (لا تحزن إن الله معنا) (التوبة:40).

وهذا ما قاله موسى لقومه حين أتبعهم فرعون بجنوده، وغدا البحر من أمامهم ، والعدو من خلفهم(فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى: إنا لمدركون. قال: كلا، إن معي ربي سيهدين) (الشعراء: 61،62).

ما أحوجنا إلى هذا اليقين لنواجه به أحفاد فرعون وأبي جهل، ونحن واثقون أن الله معنا. ومن كان الله معه فلن يضيع. (إذ ينصركم الله فلا غالب لكم، وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده وعلى الله فليتوكل المؤمنون (آل عمران:160) .

========
موقع القرضاوي


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق