قال الله تعالى ) النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُأُمَّهَاتُهُمْ ( سورة الأحزاب آية (6) ، و في رواية ) و هو أبوهم ( ، كاشفنا الله تعالى في هذه الآية مكاشفة ثبتت بها الحجة و وضحت بها المحجة ، لأننا نعلم أن الإنسان أولى بنفسه من والديه ، و كيف لا ؟ و هو يحس بآلام نفسه و لا يحس بها والداه الذين هم أولى به من الأجانب ، و لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى به من نفسه التي هي أولى به من والديه ، فيجب علينا أن نسلم له تسليما لا تنازعنا فيه نفوسنا ، و لا تمنعنا عنه آلامنا ، و لتأكيد هذا النسب الشريف أخبر أن أزواجه أمهاتنا ، بيانا لأن هذا النسب ليس معنويا فقط ، بل هو حسي أيضا ، فأوجب علينا رعاية آداب الأم معهن حسا و معنى ، و زاد على ذلك فأمرنا أن لا نكلمهن إلا من وراء حجاب .
هذه الآية شراب طهور لأرواح المؤمنين ، بها تحصل وصلتهم برسول الله صلى الله عليه وسلم . أنت تعلم أن الله تعالى سوى بين المؤمنين
في هذا النسب ، حتى لا يفخر أبيض على أسود ، و لا هاشمي على تركي ، فإنا جميعا أبناء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، و إنما الكرامة بالتقوى ، و إن الشريف الهاشمي لو خالف هذا النسب فارق دين الإسلام و لا ينفعه نسبه الطيني ، و إن الرقيق النجي إذا اتصل بهذا النسب صار أكرم الخلق على الله تعالى ، و هذه هي العزة بعينها التي يجـﳲمل الله بها كل من عمل بهذا النسب ، قال تعالى ) يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَاإِلَىا لْمَدِينَةِلَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَاالأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَوَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَايَعْلَمُونَ ( سورة المنافقون آية (8) .
رفع الله هذا النسب الإلهي رفعة ، إذ تفضل على أهله فوصفهم بصفاته الإلهية ، و حقر النسب الطيني حسا ، إذا خالف الشريف الهاشمي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بمعنى إذا أظهر الإسلام على جوارحه و أخفى الكفر بقلبه . فوصف المنتسبين المتجملين بهذا النسب بصفة العزة التي هي صفته تعالى ، و نفاها عن الذين ادعوا هذا النسب فأظهروه على جوارحهم و أخفوا الكفر في قلوبهم بجعلهم أذلاء ، فان معنى قوله تعالى ) وَلِلَّهِالْعِزَّةُوَلِرَسُولِهِوَلِلْمُؤْمِنِينَ(وصف المؤمنين بالعزة ، و أنهم يخرجون الأذلاء من المدينة لنفاقهم ، و أثبت الجهل لمن فارق هذا النسب بقلبه ، فمن تعصب لقرابته الطينية أو افتخر بشريف نسبه أو بمجد آبائه و لم يلتحق بهم - بالتمسك بهذا النسب الإلهي - فهو هالك و لا محالة ، و لا يثبت هذا النسب إلا لمن تشبه برسول الله صلى الله عليه وسلم عقيدة و عبادة و علما و حالا و معاملة ، و قام لإخوانه المسلمين بما قام به لهم أبو بكر رضى الله عنه ، و قام له و لرسوله صلى الله عليه وسلم بما أوجبه الله عليه ، حتى ينتظم في عقد هذا النسب الإلهي .
قال الله تعالى ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ۚ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54)( سورة المائدة آية (54) .
كلنا يعتقد أن الله تعالى أحاط علما بمن سبقت لهم الحسنى و بمن سبقت لهم السوءى ، و لكنه سبحانه و تعالى أخفى سر قدﹶره عن جميع خلقه ، فأظهر حكمه الشرعي الذي كلف به العالم أجمع و أخفى غيبه المكنون - الذي تميزت فيه الحقائق - عن جميع خلقه ، )إِلا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ ( سورة الجن آية (27) . فهو سبحانه و تعالى يخاطب المؤمنين بهذا الخطاب إنذارا لضعاف الإيمان الذين آمنوا بأفواههم و لم تؤمن قلوبهم ، ممن لم يذوقوا حلاوة هذا النسب المقدس و لم يكتب في قلوبهم الإيمان و لم يشرح سبحانه صدورهم للعمل بما أوجبه هذا النسب عليهم ، فأنذرهم أن المرتد منهم يجعل الله ردته خيرا للمؤمنين و شرا عليه ، فهي بشرى لنا و نقمة على ضعاف الإيمان ، و ذلك لأن الله سبحانه إذا قدر في أزله السوء لعبد أقامه فيما يكرهه سبحانه ، فتراه يجاهر بالشر إلا إذا أكره ، فإنه يخفي الشر و يظهر الخير خوفا من السيف ، و إظهار الخير لا ينفعه بشيء ، فإذا تمكن رجع إلى ما انعقد قلبه عليه من الكفر ، و هذا أمر كان يحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم و أصحابه ، و الله سبحانه و تعالى أرحم برسوله عليه الصلاة و السلام منه بنفسه فبشره بتلك البشرى ، أنه سبحانه يؤيده بأهل المحبة الإلهية من المتجملين بالنسب الروحاني .
و هذه الآية تطمئن بها قلوب المؤمنين و تنخلع منها قلوب المنافقين ، و أنت تعلم أن المنافقين كانوا يكرهون أن ينفقوا على من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنهم ليسوا متصلين بنسبهم ، و المتصل بالنسب الروحاني المحمدي متصف بقوله تعالى ) وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ۚ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴿٩﴾ ( سورة الحشر آية (9) . هذه الآية الشريفة تدل على أن نسب الإسلام أقوى من نسب الأبوة ، لأن الإنسان إذا ضاق به الحال في بلد غربة هاجر منها إلى أخرى فيها والده أو ولده ، فإذا وصل إليها محتاجا ، لا يجد ما يسره لدى أقاربه ، و لكن المسلم إذا هاجر من أرض الأعداء إلى إخوانه المؤمنين يكون منشرح الصدر بهم ، و يكون له فوق ما هو لنفسه ، كما اخبر الله عنهم بقوله تعالى )يُحِبُّونَمَنْهَاجَرَإِلَيْهِمْ ( ، و رجل يؤثرك على نفسه أقام الحجة على أنك أحب إليه من نفسه ، فتكون أحب إليه من والديه و أولاده ، و لا يتحقق هذا الحب و الإيثار إلا بالنسب الإسلامي ، و من آثرك على نفسه كيف لا يتعصب لك تعصبا ببذل ماله قبل مالك و دمه قبل دمك ؟ و إذا كان هذا تعصب المسلم للمسلم فكيف يكون تعصبه لدين الله تعالى ؟ و بالتعصب صار كل مسلم سيدا غنيا قويا .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق