كلُّنا في كل عام يشاهد مظاهر شهر رمضان، وعلمناها وعرفناها وحفظناها، سواء كانت مظاهر للأكل، أو مظاهر للشراب، أو مظاهر لعادات معينة وثابتة نمشي عليها في هذا الشهر، أو مظاهر للإذاعات، أو مظاهر للتليفزيونات، أو مظاهر لوسائل الإعلام. ولكن مَنْ مِنَّا رأى المظاهر التي تحدث في ملكوت الله وسماواته بمناسبة شهر رمضان؟ مَنْ الذي – مِنَّا - شاهد أحوال الجنة وأهلها، وكيفية احتفائهم واستقبالهم لشهر رمضان؟ مَنْ الذي شاهد عُمَّار السموات، ومكاتب السياحة الإلهية في كل سماء، تفتح أبوابها في شهر رمضان، لتسجيل أسماء الملائكة الذين يأخذون تصريحاً من الحنان المنان، لينزلوا إلى الأرض للسياحة في شهر رمضان؟ هذه المظاهر السماوية لا نستطيع معرفتها والإحاطة بها
، إلا إذا أنصتنا جيداً إلى المعلِّق الخبير، الرءوف الرحيم صلى الله عليه وسلم، فإنه وحده هو الذي أعطاه الله العدسات الكاشفة، التي تكشف عالم الغيب، وتكشف عالم الملكوت، ويصفه بعد ذلك للمشاهدين والمستمعين من أتباعه من المؤمنين. استمعوا يا معشر المؤمنين إلى رسولكم الكريم، وهو يحدثكم عن مظاهر استقبال شهر رمضان في جنة الله، وفي ملكوت الله. نحن نعرف ميقات الشهر برؤية الهلال، ولكن عالم الملكوت ليس فيه شمس ولا قمر ولا ولا نجوم، ولا ليل ولا نهار، فكيف يعرفون بداية الشهر؟ استمع إليه صلى الله عليه وسلم فيما يرويه ابن عباس رضى الله عنهما، قال: {قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: إِنَّ الْجَنَّةَ لَتُنَجَّدُ وَتُزَيَّنُ مِنَ الْحَوْلِ إِلى الْحَوْلِ لِدُخُولِ شَهْرِ رَمَضَانَ، فَإِذَا كَانَ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، هَبَّتْ رِيحٌ مِنْ تَحْتِ الْعَرْشِ يُقَالُ لَهَا: المُثِيرَةُ، تُصَفقُ وَرَقُ أَشْجَارِ الْجَنَّةِ، وَحِلَقْ المَصَارِيعِ – يعني: مقابض الأبواب - فَيُسْمَعُ لِذٰلِكَ طَنِينٌ – يعني: صوت موسيقى روحاني عظيم - لَمْ يَسْمَعِ السَّامِعُونَ أَحْسَنَ مِنْهُ، فَتَبْرُزُ الْحُورُ الْعِينُ، وَيَقِفْنَ بَيْنَ شُرَفِ الْجَنَّةِ فَيَقُلْنَ: هَلْ مِنْ خَاطِبٍ إِلى اللَّهِ فَيُزَوجَهُ، ثُمَّ يَقُلْنَ: يَا رِضْوَانُ مَا هذِهِ اللَّيْلَةُ؟ فَيُجِيبُهُمْ بِالتَّلْبِيَةِ فَيَقُولُ: يَا خَيْرَاتٌ حِسَانٌ، هذِهِ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، فُتحَتْ أَبْوَابُ الْجِنَانِ لِلصَّائِمِينَ مِنْ أُمَّةِ أَحْمَدَ فترفع كل واحدة منهن لافتة على صدرها وتقول بلسانها متحدثة بنعمة الله عليها: نحن الخالدات فلا نموت نحن الناعمات فلا نَبْأس نحن خيرات حسان هل من خاطب إلى الله عزَّ وجلّ؟}{2}. تلك بداية الشهر، تهب ريحٌ طيبة من تحت عرش الرحمن، تتعطّر منها أزهار الجنان، فيشم أهل الجنان رائحة عطرة لم يشمونها من قبل، وتصفق أوراق الأشجار، وتحرك مقابض الأبواب، فتسمع موسيقى إلهية روحانية، لم يسمع أحد بمثيلها، فيتساءل سكان الجنان، فيجيبهن مندوب الرحمن، بأن هذه أنغام استقبال شهر رمضان. ثم بعد ذلك يجمع الحق سبحانه وتعالى رؤساء الملائكة وزعمائهم، ويعقد لهم مؤتمراً عاماً في سدرة المنتهى، ويكلِّف كلَّ واحد منهم بتكليف خاص، ينفذه في إدارته وهيئته في شهر رمضان. فيجمع جبريل عليه السلام، ورضوان خازن الجنان، ومالك خازن النيران، وميكائيل وزير التموين الإلهي، ويعطي لكل واحد منهم تكليفاً. اسمعوا إلى أوامر الحقِّ التي ذكرها سيِّدُ الخَلْق صلى الله عليه وسلم حيث يقول الله تعالى: {يَا رِضْوَانُ: افْتَحْ أَبْوَابَ الْجِنَانِ. يَا مَالِكُ: أَغْلِقْ أَبْوَابَ الْجَحِيمِ عَنِ الصَّائِمِينَ مِنْ أُمَّةِ أَحْمَدَ. يَا جِبْرِيلُ: اهْبِطْ إِلى الأَرْضِ فَصَفدْ مَرَدَةَ الشَّيَاطِينِ، وَغُلَّهُمْ بِالأَغْلاَلِ، ثُمَّ اقْذِفْ بِهِمْ فِي لُجَجِ الْبِحَارِ حَتَّى لاَ يُفْسِدُوا عَلى أُمَّةِ حَبِيبي صِيَامَهُمْ وقيامهم. يا ميكائيل: إن هذا الشهر يُزاد فيه في رزق المؤمن}{3}، أى: عمِّر بطاقات تموينهم الإلهية. بماذا يعمِّرها؟ عمِّرها لهم - ليس بالأطعمة الحسّية - ولكن بالأطعمة الروحانية، فعمِّر بطاقات تموينهم بذكر الله أوعمّرها بالصلاة أوعمّرها بالصدقات وعمّرها بفعل الخيرات حتى ينطلقوا إلى الطاعات فيربحون في هذا الموسم الذي أقامه الله سوقاً للخيرات والبركات والطاعات. هذه الأوامر ما تفصيلها؟ وما فائدتها بالنسبة لنا؟ ما الذي نستفيده من فتح أبواب الجنان؟ إنك تشعر بهذا، ولكنك لا تستطيع أن تعبر عنه باللسان - وإن كنت تشعر به في كل رمضان. يأتي رمضان ونجد المريض والشيخ الكبير والطفل الصغير يصوم، والكلُّ يقول: إني أعجب كيف أني لا أشعر بألم الجوع ولا بألم العطش مع أني في غير رمضان لا أستطيع أن أكمل صيام يوم واحد؟ ونسى أن أنوار الجنان، وروائح الجنان، أبوابها مفتوحة للمؤمنين، تَهُبُّ على قلوبهم فتعمرها بالإيقان وتملأها بالإيمان، وتجعل الأعضاء سهلة الحركة خفيفة المؤنة في طاعة الحنان المنان، فلا تشعر بألمٍ ولا وصب ولا تعب، لماذا؟ للتموين الإلهي النوراني الذي غُذِّيتَ به من جنَّة الله، وإن كنت لا تشعر بهذا الغذاء، لأنه غذاءٌ قلبي، وغذاءٌ روحاني، أيضاً تتغير النوايا والقلوب، لأن الذي يدخل الجنَّة - قبل دخولها - لابد أن يدخل غرفة العمليات الإلهية على بابها، ويرقد على مشرحتها، ويشقون صدره، وينفذون فيه قول الله: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ} (47-الحجر).
وهذا يحدث في شهر رمضان، لكنه يحدث لك وأنت لا تشعر، فإنك تجد نفسك في رمضان منشرحاً لفعل الخيرات، مسارعاً مستبقاً إلى عمل الطاعات، ولا تدري لذلك سبباً، ولا تعرف لذلك سرًّا، حتى أنك تودُّ أن يصالحك من خاصمته قبل رمضان، وتودُّ أن تُحْسِنَ إلى مَنْ أساء إليك قبل رمضان، وتود أن تسامح من ظلمك قبل رمضان، وتريد أن تفعل كل أنواع الطاعات، وتقف على كل أبواب الخيرات، ولا تعرف ما هذه العزيمة الغريبة التي جاءتك في لحظة واحدة مع بداية الشهر؟ ولكنها هي الروائح الجنانية، والنسمات الروحانية، التي تهب على قلوب المؤمنين، فتعمرها باليقين، وتطهرها لحضرة رب العالمين عزَّ وجلّ. تلك بعض ملامح هذا الأمر الإلهي لفتح أبواب الجنان
ملمح آخر: أن الجنة فيها باب يسمى باب الريان، وهو خاص بالصائمين. فيفتح هذا الباب ليدون في سجلاته الذين قاموا لله في رمضان بالأوامر الإلهية، ونفذوا فيه الأحكام الشرعية، وتابعوا فيه الوصايا النبوية، لتخرج لهم بطاقة إلهية توضع في سجلات هذا الباب، حتى إذا جاء يوم الحشر، أُخِذُوا من القبور إلى القصور: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} (10-الزمر).
ينادي الوهاب أين الصابرون؟ والصوم كما قال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم:{نِصْفُ الصَّبْر}{4}، والشهر كما وصفه: {شهر الصبر، والصبر ثوابه الجنة}{5{. فيقوم الصائمون فيعرفونهم برائحة أفواههم، فإن خلوف فم الصائم أطيب عند الله من رائحة المسك. فيجتمعون تحت لواء الصبر، ثم تأخذهم الملائكة الموكلون بأمر الصبر من أرض المحشر إلى باب الريان، لا يرون حساباً، ولا ينصب لهم ميزاناً، ولا يجوزون على صراط، ولا يرون أهوالاً ولا نكبات، بل يمر عليهم الموقف كما يقول سيد السادات صلى الله عليه وسلم: {يمرُّ يوم القيامة على المؤمن كصلاة ركعتين خفيفتين}{6} فيقفون أمام الباب - والباب كما وصفه الرءوف الرحيم صلى الله عليه وسلم ، عرضه مسيرة أربعين سنة - ليس له مفاتيح ولا أقفال، وإنما يفتح لأهله بالتصريح والإذن الإلهى الصريح من الفتاح سبحانه وتعالى، فإذا وقفت أمام الباب، وكانت لك تذكرة مدونة مع الأحباب، فُتح لك الباب ودخلت هذا الرّحاب، فقابلتك الملائكة بكُوبٍ من حوض الكوثر، مكتوب عليه اسمك، تشرب منه شربة لا تظمأ بعدها أبداً، ويتبدَّل ما فيك من أمراض، ومن هموم ومن غموم، ومن تعب ونصب، وتصبح كما قال الله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ} (34-فاطر).
تفتح أبواب الجنان للصائمين، وتفتح أبواب الجنة للقائمين، وتفتح أبواب الجنة طوال هذا الشهر لتعرض البضاعة، فإن هذا الشهر موسم عرض بضاعة الرحمن لأهل الإيمان، ليس موسم عرض الكنافة والقطائف، ولكنه عرض الحور، وعرض القصور، وعرض الأنهار، أنهار من ماء غير آسن، وأنهار من لبن لم يتغير طعمه، وأنهار من خمر لذة للشاربين، وأنهار من عسل مصفى. عرض السياج، عرض الحدائق، عرض الكافتريات الإلهية والمطاعم الربانية والجنانية، تزيَّن لأهل الإيمان في شهر رمضان.
هذا العرض أو المعرض في ملكوت الله، ولمدة شهر واحد هو شهر رمضان، وتذكرة دخول المعرض هي: صيام شهر رمضان. فمن صام إيماناً واحتساباً، فإن الحقَّ سبحانه وتعالى يتفضل عليه في ليلة العرض الكبرى، ويرسل الملائكة لتأخذ روحه من الأرض وتعرج بها إلى عالم الملكوت، ثم يدخلون بها إلى جنة الحيِّ الذي لا يموت، فيرون النعيم الذي لا ينفد، ويرون الخير الذي لا يكِلُّ ولا يبرح، ويكون كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {قَالَ اللّهُ عزَّ وجلّ: أَعْدَدْتُ لِعِبَادِيَ الصَّالِحِينَ مَا لاَ عَيْنٌ رَأَتْ، وَلاَ أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلاَ خَطَرَ عَلَىٰ قَلْبِ بَشَرٍ}{7}، فيصبح الواحد منهم وقد رأى من عجائب قدرة الله، وقد رأى من باهر أنوار الله، وقد رأى من غرائب صنع الله في جنة الله، ما يجعله يزهد في هذه الدنيا، ويريد أن يفرَّ إلى حضرة الله، متذكِّراً لقول مولاه: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} (50-الذاريات) .
أيها الأخوة المؤمنون: هذه فرصتكم لتشاهدوا جنتكم، فإن الجنة مفتوحة أبوابها لكم، تنادي عليكم: مَنْ يريد أن يشاهد ملكوت الله؟ ومن يريد أن يتفرج على نعم الله الباقية؟ ومن يريد أن يرى آثار الله سبحانه وتعالى غير الفانية؟ فعليه أن يصوم الصيام الصحيح، ويُعَلِّي همته، ويعلي روحه، ويكثر زاده، ويقطع تذكرة سفر مع الأحباب - في ليلة السفر الكبرى - إلى العليِّ الوهاب، يسافر إلى الله ويرى من نعم الله ما تقرّ به عيناه، فلا يمدُّ عينه بعد ذلك إلى شئ من زينة هذه الحياة، كما كان أصحاب رسول الله رضى الله عنهم وأرضاهم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {فَإِذَا كَانَ لَيْلَةُ الْقَدْرِ، أَمَرَ اللَّهُ تَعَالى جِبْرِيلَ، فَيَهْبِطُ فِي كَبْكَبَةٍ مِنَ المَلاَئِكَةِ إِلى الأَرْضِ،وَمَعَهُ لِوَاءٌ أَخْضَرُ فَيُرْكِزُهُ عَلى ظَهْرِ الْكَعْبَةِ، وَلَهُ سِتُّمِائَةِ جَنَاحٍ، مِنْهَا جَنَاحَانِ لاَ يَنْشُرُهُمَا إِلاَّ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، فَيَنْشُرُهُمَا تِلْكَ اللَّيْلَةَ، فَيُجَاوِزَانِ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ، وَيَبُثُّ جِبْرِيلُ المَلاَئِكَةَ فِي هذِهِ الأُمَّةِ، فَيُسَلِّمُونَ عَلى كُل قَائِمٍ وَقَاعِدٍ، وُمُصَلٍّ وَذَاكِرٍ، وَيُصَافِحُونَهُمْ وَيُؤَمنُونَ عَلى دُعَائِهِمْ حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ. فَإِذَا كَانَ لَيْلَةَ الْفِطْرِ، سُميَتْ تِلْكَ اللَّيْلَةُ لَيْلَةَ الْجَائِزَةِ. فَإِذَا كَانَ غَدَاةُ الْفِطْرِ، يَبْعَثُ اللَّهُ تَعَالى مَلاَئِكَةً فِي كُل الْبِلاَدِ، فَيَهْبِطُونَ إِلى الأَرْضِ، وَيَقُومُونَ عَلى أَفْوَاهِ السكَكِ، فَيُنَادُونَ بِصَوْتٍ يَسْمَعُهُ جَمِيعُ مَنْ خَلَقَ اللَّهُ إِلاَّ الْجِنَّ وَالإِنْسَ، فَيَقُولُونَ: يَا أُمَّةَ أَحْمَدَ اخْرُجُوا إِلى رَبٍّ كَرِيمٍ، يُعْطِي الْجَزِيلَ، وَيَغْفِرُ الْعَظِيمَ. فَإِذَا بَرَزُوا فِي مُصَلاَّهُمْ، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالى لِلْمَلاَئِكَةِ: يَا مَلاَئِكَتي مَا جِزَاءُ الأَجِيرِ إِذَا عَمِلَ عَمَلَهُ؟ فَيَقُولُونَ: جَزَاؤُهُ أَنْ يُوَفَّى أَجْرَهُ، فَيَقُولُ: فَإِني أُشْهِدُكُمْ أَني جَعَلْتُ ثَوَابَهُمْ مِنْ صِيَامِهِمْ شَهْرَ رَمَضَانَ وَقِيَامِهِمْ، رِضَائي وَمَغْفِرَتي. وَيَقُولُ: يَا عِبَادِي سَلُوني، فَوَعِزَّتي وَجَلاَلِي لاَ تَسْأَلُونِي الْيَوْمَ شَيْئاً فِي جَمْعِكُمْ لآخِرَتِكُمْ إِلاَّ أَعْطَيْتُكُمْ، وَلاَ لِدُنْيَاكُمْ إِلاَّ نَظَرْتُ لَكُمْ، وَعِزَّتي لأَسْتُرَنَّ عَلَيْكُمْ عَثَرَاتِكُمْ مَا رَاقَبْتُمُونِي، وَعِزَّتي لاَ أُخْزِيكُمْ وَلاَ أَفْضَحُكُمْ بَيْنَ يَدَيْ أَصْحَابِ الْحُدُودِ. انْصَرِفُوا مَغْفُوراً لَكُمْ، قَدْ أَرْضَيْتُمُوني وَرَضَيْتُ عَنْكُمْ. فَتَفْرحُ المَلاَئِكَةُ وَتَسْتَبْشِرُ بِمَا يُعْطِي اللَّهُ تَعَالى هذِهِ الأُمَّةَ إِذَا أَفْطَرُوا مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ}{8} ..... ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة.
، إلا إذا أنصتنا جيداً إلى المعلِّق الخبير، الرءوف الرحيم صلى الله عليه وسلم، فإنه وحده هو الذي أعطاه الله العدسات الكاشفة، التي تكشف عالم الغيب، وتكشف عالم الملكوت، ويصفه بعد ذلك للمشاهدين والمستمعين من أتباعه من المؤمنين. استمعوا يا معشر المؤمنين إلى رسولكم الكريم، وهو يحدثكم عن مظاهر استقبال شهر رمضان في جنة الله، وفي ملكوت الله. نحن نعرف ميقات الشهر برؤية الهلال، ولكن عالم الملكوت ليس فيه شمس ولا قمر ولا ولا نجوم، ولا ليل ولا نهار، فكيف يعرفون بداية الشهر؟ استمع إليه صلى الله عليه وسلم فيما يرويه ابن عباس رضى الله عنهما، قال: {قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: إِنَّ الْجَنَّةَ لَتُنَجَّدُ وَتُزَيَّنُ مِنَ الْحَوْلِ إِلى الْحَوْلِ لِدُخُولِ شَهْرِ رَمَضَانَ، فَإِذَا كَانَ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، هَبَّتْ رِيحٌ مِنْ تَحْتِ الْعَرْشِ يُقَالُ لَهَا: المُثِيرَةُ، تُصَفقُ وَرَقُ أَشْجَارِ الْجَنَّةِ، وَحِلَقْ المَصَارِيعِ – يعني: مقابض الأبواب - فَيُسْمَعُ لِذٰلِكَ طَنِينٌ – يعني: صوت موسيقى روحاني عظيم - لَمْ يَسْمَعِ السَّامِعُونَ أَحْسَنَ مِنْهُ، فَتَبْرُزُ الْحُورُ الْعِينُ، وَيَقِفْنَ بَيْنَ شُرَفِ الْجَنَّةِ فَيَقُلْنَ: هَلْ مِنْ خَاطِبٍ إِلى اللَّهِ فَيُزَوجَهُ، ثُمَّ يَقُلْنَ: يَا رِضْوَانُ مَا هذِهِ اللَّيْلَةُ؟ فَيُجِيبُهُمْ بِالتَّلْبِيَةِ فَيَقُولُ: يَا خَيْرَاتٌ حِسَانٌ، هذِهِ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، فُتحَتْ أَبْوَابُ الْجِنَانِ لِلصَّائِمِينَ مِنْ أُمَّةِ أَحْمَدَ فترفع كل واحدة منهن لافتة على صدرها وتقول بلسانها متحدثة بنعمة الله عليها: نحن الخالدات فلا نموت نحن الناعمات فلا نَبْأس نحن خيرات حسان هل من خاطب إلى الله عزَّ وجلّ؟}{2}. تلك بداية الشهر، تهب ريحٌ طيبة من تحت عرش الرحمن، تتعطّر منها أزهار الجنان، فيشم أهل الجنان رائحة عطرة لم يشمونها من قبل، وتصفق أوراق الأشجار، وتحرك مقابض الأبواب، فتسمع موسيقى إلهية روحانية، لم يسمع أحد بمثيلها، فيتساءل سكان الجنان، فيجيبهن مندوب الرحمن، بأن هذه أنغام استقبال شهر رمضان. ثم بعد ذلك يجمع الحق سبحانه وتعالى رؤساء الملائكة وزعمائهم، ويعقد لهم مؤتمراً عاماً في سدرة المنتهى، ويكلِّف كلَّ واحد منهم بتكليف خاص، ينفذه في إدارته وهيئته في شهر رمضان. فيجمع جبريل عليه السلام، ورضوان خازن الجنان، ومالك خازن النيران، وميكائيل وزير التموين الإلهي، ويعطي لكل واحد منهم تكليفاً. اسمعوا إلى أوامر الحقِّ التي ذكرها سيِّدُ الخَلْق صلى الله عليه وسلم حيث يقول الله تعالى: {يَا رِضْوَانُ: افْتَحْ أَبْوَابَ الْجِنَانِ. يَا مَالِكُ: أَغْلِقْ أَبْوَابَ الْجَحِيمِ عَنِ الصَّائِمِينَ مِنْ أُمَّةِ أَحْمَدَ. يَا جِبْرِيلُ: اهْبِطْ إِلى الأَرْضِ فَصَفدْ مَرَدَةَ الشَّيَاطِينِ، وَغُلَّهُمْ بِالأَغْلاَلِ، ثُمَّ اقْذِفْ بِهِمْ فِي لُجَجِ الْبِحَارِ حَتَّى لاَ يُفْسِدُوا عَلى أُمَّةِ حَبِيبي صِيَامَهُمْ وقيامهم. يا ميكائيل: إن هذا الشهر يُزاد فيه في رزق المؤمن}{3}، أى: عمِّر بطاقات تموينهم الإلهية. بماذا يعمِّرها؟ عمِّرها لهم - ليس بالأطعمة الحسّية - ولكن بالأطعمة الروحانية، فعمِّر بطاقات تموينهم بذكر الله أوعمّرها بالصلاة أوعمّرها بالصدقات وعمّرها بفعل الخيرات حتى ينطلقوا إلى الطاعات فيربحون في هذا الموسم الذي أقامه الله سوقاً للخيرات والبركات والطاعات. هذه الأوامر ما تفصيلها؟ وما فائدتها بالنسبة لنا؟ ما الذي نستفيده من فتح أبواب الجنان؟ إنك تشعر بهذا، ولكنك لا تستطيع أن تعبر عنه باللسان - وإن كنت تشعر به في كل رمضان. يأتي رمضان ونجد المريض والشيخ الكبير والطفل الصغير يصوم، والكلُّ يقول: إني أعجب كيف أني لا أشعر بألم الجوع ولا بألم العطش مع أني في غير رمضان لا أستطيع أن أكمل صيام يوم واحد؟ ونسى أن أنوار الجنان، وروائح الجنان، أبوابها مفتوحة للمؤمنين، تَهُبُّ على قلوبهم فتعمرها بالإيقان وتملأها بالإيمان، وتجعل الأعضاء سهلة الحركة خفيفة المؤنة في طاعة الحنان المنان، فلا تشعر بألمٍ ولا وصب ولا تعب، لماذا؟ للتموين الإلهي النوراني الذي غُذِّيتَ به من جنَّة الله، وإن كنت لا تشعر بهذا الغذاء، لأنه غذاءٌ قلبي، وغذاءٌ روحاني، أيضاً تتغير النوايا والقلوب، لأن الذي يدخل الجنَّة - قبل دخولها - لابد أن يدخل غرفة العمليات الإلهية على بابها، ويرقد على مشرحتها، ويشقون صدره، وينفذون فيه قول الله: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ} (47-الحجر).
وهذا يحدث في شهر رمضان، لكنه يحدث لك وأنت لا تشعر، فإنك تجد نفسك في رمضان منشرحاً لفعل الخيرات، مسارعاً مستبقاً إلى عمل الطاعات، ولا تدري لذلك سبباً، ولا تعرف لذلك سرًّا، حتى أنك تودُّ أن يصالحك من خاصمته قبل رمضان، وتودُّ أن تُحْسِنَ إلى مَنْ أساء إليك قبل رمضان، وتود أن تسامح من ظلمك قبل رمضان، وتريد أن تفعل كل أنواع الطاعات، وتقف على كل أبواب الخيرات، ولا تعرف ما هذه العزيمة الغريبة التي جاءتك في لحظة واحدة مع بداية الشهر؟ ولكنها هي الروائح الجنانية، والنسمات الروحانية، التي تهب على قلوب المؤمنين، فتعمرها باليقين، وتطهرها لحضرة رب العالمين عزَّ وجلّ. تلك بعض ملامح هذا الأمر الإلهي لفتح أبواب الجنان
ملمح آخر: أن الجنة فيها باب يسمى باب الريان، وهو خاص بالصائمين. فيفتح هذا الباب ليدون في سجلاته الذين قاموا لله في رمضان بالأوامر الإلهية، ونفذوا فيه الأحكام الشرعية، وتابعوا فيه الوصايا النبوية، لتخرج لهم بطاقة إلهية توضع في سجلات هذا الباب، حتى إذا جاء يوم الحشر، أُخِذُوا من القبور إلى القصور: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} (10-الزمر).
ينادي الوهاب أين الصابرون؟ والصوم كما قال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم:{نِصْفُ الصَّبْر}{4}، والشهر كما وصفه: {شهر الصبر، والصبر ثوابه الجنة}{5{. فيقوم الصائمون فيعرفونهم برائحة أفواههم، فإن خلوف فم الصائم أطيب عند الله من رائحة المسك. فيجتمعون تحت لواء الصبر، ثم تأخذهم الملائكة الموكلون بأمر الصبر من أرض المحشر إلى باب الريان، لا يرون حساباً، ولا ينصب لهم ميزاناً، ولا يجوزون على صراط، ولا يرون أهوالاً ولا نكبات، بل يمر عليهم الموقف كما يقول سيد السادات صلى الله عليه وسلم: {يمرُّ يوم القيامة على المؤمن كصلاة ركعتين خفيفتين}{6} فيقفون أمام الباب - والباب كما وصفه الرءوف الرحيم صلى الله عليه وسلم ، عرضه مسيرة أربعين سنة - ليس له مفاتيح ولا أقفال، وإنما يفتح لأهله بالتصريح والإذن الإلهى الصريح من الفتاح سبحانه وتعالى، فإذا وقفت أمام الباب، وكانت لك تذكرة مدونة مع الأحباب، فُتح لك الباب ودخلت هذا الرّحاب، فقابلتك الملائكة بكُوبٍ من حوض الكوثر، مكتوب عليه اسمك، تشرب منه شربة لا تظمأ بعدها أبداً، ويتبدَّل ما فيك من أمراض، ومن هموم ومن غموم، ومن تعب ونصب، وتصبح كما قال الله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ} (34-فاطر).
تفتح أبواب الجنان للصائمين، وتفتح أبواب الجنة للقائمين، وتفتح أبواب الجنة طوال هذا الشهر لتعرض البضاعة، فإن هذا الشهر موسم عرض بضاعة الرحمن لأهل الإيمان، ليس موسم عرض الكنافة والقطائف، ولكنه عرض الحور، وعرض القصور، وعرض الأنهار، أنهار من ماء غير آسن، وأنهار من لبن لم يتغير طعمه، وأنهار من خمر لذة للشاربين، وأنهار من عسل مصفى. عرض السياج، عرض الحدائق، عرض الكافتريات الإلهية والمطاعم الربانية والجنانية، تزيَّن لأهل الإيمان في شهر رمضان.
هذا العرض أو المعرض في ملكوت الله، ولمدة شهر واحد هو شهر رمضان، وتذكرة دخول المعرض هي: صيام شهر رمضان. فمن صام إيماناً واحتساباً، فإن الحقَّ سبحانه وتعالى يتفضل عليه في ليلة العرض الكبرى، ويرسل الملائكة لتأخذ روحه من الأرض وتعرج بها إلى عالم الملكوت، ثم يدخلون بها إلى جنة الحيِّ الذي لا يموت، فيرون النعيم الذي لا ينفد، ويرون الخير الذي لا يكِلُّ ولا يبرح، ويكون كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {قَالَ اللّهُ عزَّ وجلّ: أَعْدَدْتُ لِعِبَادِيَ الصَّالِحِينَ مَا لاَ عَيْنٌ رَأَتْ، وَلاَ أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلاَ خَطَرَ عَلَىٰ قَلْبِ بَشَرٍ}{7}، فيصبح الواحد منهم وقد رأى من عجائب قدرة الله، وقد رأى من باهر أنوار الله، وقد رأى من غرائب صنع الله في جنة الله، ما يجعله يزهد في هذه الدنيا، ويريد أن يفرَّ إلى حضرة الله، متذكِّراً لقول مولاه: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} (50-الذاريات) .
أيها الأخوة المؤمنون: هذه فرصتكم لتشاهدوا جنتكم، فإن الجنة مفتوحة أبوابها لكم، تنادي عليكم: مَنْ يريد أن يشاهد ملكوت الله؟ ومن يريد أن يتفرج على نعم الله الباقية؟ ومن يريد أن يرى آثار الله سبحانه وتعالى غير الفانية؟ فعليه أن يصوم الصيام الصحيح، ويُعَلِّي همته، ويعلي روحه، ويكثر زاده، ويقطع تذكرة سفر مع الأحباب - في ليلة السفر الكبرى - إلى العليِّ الوهاب، يسافر إلى الله ويرى من نعم الله ما تقرّ به عيناه، فلا يمدُّ عينه بعد ذلك إلى شئ من زينة هذه الحياة، كما كان أصحاب رسول الله رضى الله عنهم وأرضاهم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {فَإِذَا كَانَ لَيْلَةُ الْقَدْرِ، أَمَرَ اللَّهُ تَعَالى جِبْرِيلَ، فَيَهْبِطُ فِي كَبْكَبَةٍ مِنَ المَلاَئِكَةِ إِلى الأَرْضِ،وَمَعَهُ لِوَاءٌ أَخْضَرُ فَيُرْكِزُهُ عَلى ظَهْرِ الْكَعْبَةِ، وَلَهُ سِتُّمِائَةِ جَنَاحٍ، مِنْهَا جَنَاحَانِ لاَ يَنْشُرُهُمَا إِلاَّ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، فَيَنْشُرُهُمَا تِلْكَ اللَّيْلَةَ، فَيُجَاوِزَانِ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ، وَيَبُثُّ جِبْرِيلُ المَلاَئِكَةَ فِي هذِهِ الأُمَّةِ، فَيُسَلِّمُونَ عَلى كُل قَائِمٍ وَقَاعِدٍ، وُمُصَلٍّ وَذَاكِرٍ، وَيُصَافِحُونَهُمْ وَيُؤَمنُونَ عَلى دُعَائِهِمْ حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ. فَإِذَا كَانَ لَيْلَةَ الْفِطْرِ، سُميَتْ تِلْكَ اللَّيْلَةُ لَيْلَةَ الْجَائِزَةِ. فَإِذَا كَانَ غَدَاةُ الْفِطْرِ، يَبْعَثُ اللَّهُ تَعَالى مَلاَئِكَةً فِي كُل الْبِلاَدِ، فَيَهْبِطُونَ إِلى الأَرْضِ، وَيَقُومُونَ عَلى أَفْوَاهِ السكَكِ، فَيُنَادُونَ بِصَوْتٍ يَسْمَعُهُ جَمِيعُ مَنْ خَلَقَ اللَّهُ إِلاَّ الْجِنَّ وَالإِنْسَ، فَيَقُولُونَ: يَا أُمَّةَ أَحْمَدَ اخْرُجُوا إِلى رَبٍّ كَرِيمٍ، يُعْطِي الْجَزِيلَ، وَيَغْفِرُ الْعَظِيمَ. فَإِذَا بَرَزُوا فِي مُصَلاَّهُمْ، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالى لِلْمَلاَئِكَةِ: يَا مَلاَئِكَتي مَا جِزَاءُ الأَجِيرِ إِذَا عَمِلَ عَمَلَهُ؟ فَيَقُولُونَ: جَزَاؤُهُ أَنْ يُوَفَّى أَجْرَهُ، فَيَقُولُ: فَإِني أُشْهِدُكُمْ أَني جَعَلْتُ ثَوَابَهُمْ مِنْ صِيَامِهِمْ شَهْرَ رَمَضَانَ وَقِيَامِهِمْ، رِضَائي وَمَغْفِرَتي. وَيَقُولُ: يَا عِبَادِي سَلُوني، فَوَعِزَّتي وَجَلاَلِي لاَ تَسْأَلُونِي الْيَوْمَ شَيْئاً فِي جَمْعِكُمْ لآخِرَتِكُمْ إِلاَّ أَعْطَيْتُكُمْ، وَلاَ لِدُنْيَاكُمْ إِلاَّ نَظَرْتُ لَكُمْ، وَعِزَّتي لأَسْتُرَنَّ عَلَيْكُمْ عَثَرَاتِكُمْ مَا رَاقَبْتُمُونِي، وَعِزَّتي لاَ أُخْزِيكُمْ وَلاَ أَفْضَحُكُمْ بَيْنَ يَدَيْ أَصْحَابِ الْحُدُودِ. انْصَرِفُوا مَغْفُوراً لَكُمْ، قَدْ أَرْضَيْتُمُوني وَرَضَيْتُ عَنْكُمْ. فَتَفْرحُ المَلاَئِكَةُ وَتَسْتَبْشِرُ بِمَا يُعْطِي اللَّهُ تَعَالى هذِهِ الأُمَّةَ إِذَا أَفْطَرُوا مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ}{8} ..... ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة.
ومن اراد المزيد يمكنكم الدخول على
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق