هذا تأصيل شرعي للمقصود بكلمة مدد وفق عقيدة أهل السنة ومن وافقهم وذلك استجابة للسؤال المتكرر عنها:
ليس هناك رازق "على الحقيقة" غير الله، ومع ذلك قال سبحانه وتعالى: {والله خير الرازقين}، بل قال تعالى: {وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين "فارزقوهم" منه وقولوا لهم قولا معروفا}. وهذا يُسمى في لغة العرب "المجاز" أي أنهم تسببوا في وصول رزقي إليهم فنسبته لهم وقلت {فارزقوهم منه}. وكذلك المدد هو على الحقيقة من الله وحده وهو ينسب "مجازا" إلى من تسبب فيه، وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حق سيدنا الحسين: (حسين مني وأنا من حسين، أحب الله من أحب حسينا، حسين سِبط من الأسباط) وهو حديث حسن أخرجه البخاري في الأدب المفرد والترمذي وغيرهما، وقال في محبة عموم الصالحين:
(المرء مع من أحب) وهو حديث صحيح رواه البخاري ومسلم. فظهر إذن أن محبة سيدنا الحسين سبب في حصول مدد محبة الله وكذلك محبة الصالحين مددها الفوز بمعيتهم، ولهذا نُسب المدد "مجازا" إليه وإليهم. وأما اعتقاد أن إمكانية النفع مقتصرة على الأحياء دون من توفاهم الله فهو محل الإشكال وفيه "شبهة" الشرك لاحتوائه على ما يشير إلى الاعتقاد بأن الأحياء ينفعون "على الحقيقة" استقلالا من عند أنفسهم "من دون الله" ولهذا اعتقدوا انقطاع نفعهم بموتهم، وجعلوا التوسل مقصورا على الأحياء دون الأموات بينما يعتقد أهل التوحيد أن الله وحده هو النافع الضار وأن العباد أسباب ونفعهم يكون "بإذن الله" فلا يترتب الأمر على حياتهم وموتهم فالمُسبب سبحانه حي لا يموت. ولهذا أورد الإمام النووي رحمه الله دعاء التوسل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم والاستغاثة به في كتابه "الأذكار" في الحديث الثاني تحت عنوان أذكار صلاة الحاجة * ولم يعتبر الإمام النووي انتقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى جوار ربه سببا في التوقف عن هذا الدعاء الذي فيه التوسل والاستغاثة لأنه يعتقد، كسائر أهل التوحيد، بأن النافع في الحقيقة هو الله، وأن التوسل بالنبي والاستغاثة به ما هو الا سبب من الأسباب، ولهذا لم يُنكر سيدنا عمر بن الخطاب على الرجل الذي جاء إلى قبر النبي وسأله أن يستسقي لأمته** وهذا ما ذهب إليه جمهور أهل السنة والجماعة باستثناء جماعة قليلة من أشهرهم الشيخ ابن تيمية وتلاميذ مدرسته رحمهم الله، فمن شاء أن يأخذ بمذهب الجمهور فله ذلك ومن شاء بأن يأخذ بمذهب الاستثناء فله ذلك دون تشغيب أو نزاع. وأما سرعة انتشار هذا المقطع على أنه "تسريب"، وهو مجلس إنشاد كان يصوره العشرات من الحضور؛ فما هو إلا نوع من العمل "المنظم" لمحاولة التشويه والصاق التشيع أو الشرك أو غيرها من الأوصاف وهو غير جديد على من لا يتقنون التعامل مع خلاف الرأي إلا من خلال الطعن في المخالف ومحاولة اغتياله معنويا بعيدا عن مناقشته في مواضع الاختلاف الحقيقي، لهذا فالفقير لا يعبأ ولا يرد على أمثال هذا التشغيب في العادة لولا احترام أخذك، وفقك الله، بفريضة التبّت، وحرصك على السؤال والسلام.
وإليكم هذه أبيات الرائقة لأمير المؤمنين في الحديث الحافظ أحمد بن حجر العسقلاني صاحب أعظم شروح صحيح البخاري من قصائد له في مدح النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتوسل فيها بجاهه الشريف ويستغيث:
نبي اللَه يا خَيرَ البَرايا ..ِجاهِكَ أَتَقي فصل القَضاءِ |
وَأَرجو يا كَريم العَفو عما .جنته يَدايَ يا رَب الحباءِ |
فَكَعبُ الجود لا يُرضى فِداءً .لِنَعلِكَ وَهوَ رأس في السَخاءِ |
وسنَّ بمدحك ابن زهير كَعبٌ ..لِمثلي مِنكَ جائِزَةَ الثَناءِ |
فَقُل يا أَحمد بن عليٍ اذهَب .. ِلى دارِ النَعيم بِلا شَقاءِ |
فَإِن أَحزَن فَمدحك لي سروري ..وَإِن أَقنط فحمدك لي رَجائي |
عَلَيكَ سَلام رَب الناس تتلو ..صَلاةً في الصَباح وَفي المَساءِ |
وقال رحمه الله:
ببابِ جُودكَ عَبْدٌ مذنبٌ كلفٌ ..يا أحسنَ النَّاسِ وجهًا مشرقًا وقفا |
بكُم توسلَ يرجو العفو عن زللٍ ..من خَوفهِ جَفنُهُ الهامي لقد ذرفا |
وإن يكن نِسبةً يُعزَى الى حَجرٍ ..فطالما فاض عذبا طيبا وصفا |
وقال أيضا:
وكم مُذنبٍ وافاهُ يطلب نجدةً ..تُنجيهِ في الأُخرى فأنجى وأنجدا |
أيا خيرَ خَلْقِك اللهِ دعوةَ مُذنبٍ ..تَخوَّفَ من نارِ الجحيم توقُّدا |
له سندٌ عالٍ بمدحك نيِّرٌ ..وبابُك أمسى منه أسنَى وأسندا |
وأنتَ الذي جنبْتَنا طارقَ الرَّدى ..وأنتَ الذي عرّفتنَا طُرقَ الهدى |
..............
* استنادا إلى الحديث الصحيح الذي أخرجه الامام احمد في مسنده والترمذي وابن ماجه والحاكم والبيهقي في دلائل النبوة وبن خزيمة في صحيحه من طريق عثمان بن حنيف رضي الله عنه أن رجلا ضريرا أتى النبى صلى الله عليه وسلم فقال يا نبى الله ادع الله أن يعافينى. فقال (إن شئتَ أخرتَ ذلك فهو أفضل لآخرتك وإن شئت دعوت لك). قال لا بل ادع الله لى. فأمره أن يتوضأ وأن يصلى ركعتين وأن يدعو بهذا الدعاء (اللهم إنى أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد صلى الله عليه وسلم نبى الرحمة يا محمد إنى أتوجه بك إلى ربى فى حاجتى هذه فتقضى اللهم شفعه فيّ).
** الأثر أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" والبخاري في "التاريخ الكبير" مختصرا والبيهقي في "الدلائل"، وابن عساكر في "تاريخه" وصححه الحافظ بن حجر في شرحه على البخاري وابن كثير في تاريخه: "أَصَابَ النَّاسَ قَحْطٌ فِي زَمَنِ عُمَرَ ، فَجَاءَ رَجُلٌ إِلَى قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، اسْتَسْقِ لِأُمَّتِكَ فَإِنَّهُمْ قَدْ هَلَكُوا، فَأَتَى الرَّجُلَ فِي الْمَنَامِ فَقِيلَ لَهُ : " ائْتِ عُمَرَ فَأَقْرِئْهُ السَّلَامَ، وَأَخْبِرْهُ أَنَّكُمْ مسْقِيُّونَ وَقُلْ لَهُ : عَلَيْكَ الْكَيْسُ ، عَلَيْكَ الْكَيْسُ "، فَأَتَى عُمَرَ فَأَخْبَرَهُ فَبَكَى عُمَرُ ثُمَّ قَالَ : يَا رَبِّ لَا آلُو إِلَّا مَا عَجَزْتُ عَنْهُ" وطعن المخالفين في صحة الأثر بجهالة مالك الدار مردود بما أورده الحافظ بن حجر في الإصابة في من لهم إدراك فقال: "" مالك بن عياض مولى عمر هو الذي يقال له مالك الدار، له إدراك، وسمع من أبي بكر الصديق وروى عن الشيخين ومعاذ وأبي عبيدة، روى عنه أبو صالح السمان وابناه عون وعبدالله ابنا مالك" فهو غير مجهول العين، وقال عنه إسماعيل القاضي عن علي بن المديني: "كان مالك الدار خازنا لعمر" فهو غير مجهول الحال. وقال الحافظ الخليلي في كتاب الإرشاد عن مالك الدار: "تابعي قديم متفق عليه أثنى عليه التابعون" ومن حفظ حجة على من لم يحفظ..
وأما من حاول تضعيف الحديث بحجة أن الأعمش مدلس وقد عنعن، فهو مردود على قواعد الجرح والتعديل،لأن الأعمش ممن اعتمد البخاري عنعنته عن أبي صالح السمان كما هو في سند هذا الأثر، وقد نص الحافظ الذهبي والحافظ ابن حجرعلى قبول عنعنته عن أبي صالح السمان، فمحاولة الطعن في صحة الأثر من هذا الباب ينبع عن جهل بهذا أو تعصب للرأي.
افتراضي نقل كلام سيدنا الشيخ عبدالقادر عيسى في حول هذا الموضوع
يقول الشيخ عبد القادر عيسى رحمه الله في كتاب حقائق عن التصوف :
ـ ومن الكلمات التي لها تأويل شرعي صحيح كلمة [مدد] التي يُردِّدها بعض الصوفية، فينادي بها أحدهم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أو يخاطب بها شيخه.
وحجة المعترِض عليهم أن هذه الكلمة هي سؤال لغير الله واستعانة بسواه ولا يجوز السؤال إِلا له ولا الاستعانة إِلا به ؛ حيث قال الرسول (صلى الله عليه وسلم): «إِذا سألت فاسأل الله، وإِذا استعنت فاستعن بالله»(أخرجه مسلم)، ثم إِن الله تعالى بيَّن في كتابه العزيز أنه هو مصدر الإِمداد حين قال: كلا ً نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك [الإِسراء: 20].
وقد جهل هؤلاء المعترضون أن السادة الصوفية هم أهل التوحيد الخالص، الذين يأخذون بيد مريديهم ليذيقوهم حلاوة الإِيمان، وصفاء اليقين ؛ ويخلصوهم من شوائب الشرك في جميع صوره وأنواعه.
ولتوضيح المراد من كلمة [مدد] نقول: لابد للمؤمن في جميع أحواله أن تكون له نظرتان:
ـ نظرية توحيدية لله تعالى، بأنه وحده مسبب الأسباب، والفاعل المطلق في هذا الكون، المنفردُ بالإِيجاد والإِمداد، ولا يجوز للعبد أن يشرك معه أحداً من خلقه، مهما علا قدره أو سمت رتبته من نبي أو ولي.
ـ للأسباب التي أثبتها الله تعالى بحكمته، حيث جعل لكل شيء سبباً.
فالمؤمن يتخذ الأسباب ولكنه لا يعتمد عليها ولا يعتقد بتأثيرها الاستقلالي، فإِذا نظر العبد إِلى السبب واعتقد بتأثيره المستقل عن الله تعالى فقد أشرك، لأنه جعل الإِله الواحد آلهة متعددين. وإِذا نظر للمسبِّب وأهمل اتخاذ الأسباب، فقد خالف سنة الله الذي جعل لكل شيء سبباً. والكمال هو النظر بالعينين معاً، فنشهد المسبِّبَ ولا نهمل السبب. ولتوضيح هذه الفكرة نسوق بعض الأمثلة عليها: ـ إِن الله تعالى وحده هو خالق البشر ؛ ومع ذلك فقد جعل لخلقهم سبباً عادياً، وهو التقاء الزوجين، وتكوُّنُ الجنين في رحم الأم، وخروجه منه في أحسن تقويم.
ـ وكذلك فإِن الله تعالى هو وحده المميت ؛ ولكنه جعل للإماتة سبباً هو ملك الموت، فإِذا لاحظنا المسبب قلنا: الله يتوفى الانفس
[الزمر: 42].
وإِذا قلنا: إِن فلاناً قد توفاه ملك الموت، لا نكون قد أشركنا مع الله إِلهاً آخر ؛ لأننا لاحظنا السبب، كما بينه الله تعالى في قوله: قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم [السجدة: 11].
ـ وكذلك فإِن الله تعالى هو الرزاق، ولكنه جعل للرزق أسباباً عادية كالتجارة والزراعة.. فإِذا لاحظنا المسبب في معرض التوحيد، أدركنا قوله تعالى: إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين [الذاريات: 58]. وإِذا لاحظنا السبب وقلنا: إِن فلاناً يُرزَقُ من كسبهِ، لا نكون بذلك قد أشركنا، فرسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: «ما أكل أحد طعاماً قط خيراً من أن يأكل من عمل يده»(أخرجه البخاري). وقد جمع الرسول (صلى الله عليه وسلم) بين النظرتين توضيحاً للأمر وبياناً للكمال في قوله: «وإِنما أنا قاسم والله يعطي»( أخرجه البخاري).
ـ وكذلك الأمر بالنسبة للإِنعام، ففي معرض التوحيد قوله تعالى: وما بكم من نعمة فمن الله [النحل: 53]. لأنه المنعم الحقيقي وحده. وفي معرض الجمع بين ملاحظة المسبِّب والسبب قوله تعالى: وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه .. [الأحزاب: 37]. فليس الرسول (صلى الله عليه وسلم) شريكاً لله في عطائه، وإِنما سيقت النعم لزيد بن حارثة رضي الله عنه بسببه (صلى الله عليه وسلم )، فقد أسلم على يديه، وأُعتِقَ بفضله، وتزوج باختياره..
ـ وكذلك بالنسبة للاستعانة، إِذا نظرنا للمسبب قلنا: «إِذا استعنْتَ فاستعن بالله». وإِذا نظرنا للسبب قلنا: وتعاونوا على البر والتقوى [المائدة: 2]. «والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه»(أخرجه مسلم ). فإِذا قال المؤمن لأخيه: أَعِنِّي على حمل هذا المتاع ؛ لا يكون مشركاً مع الله تعالى أحداً أو مستعيناً بغير الله، لأن المؤمن ينظر بعينيه، فيرى المسبِّب والسبب، وكل من يتهمه بالشرك فهو ضال مضل.
ـ وهكذا الأمر بالنسبة للهداية ؛ إِذا نظرنا للمسبب، رأينا الله تعالى لرسوله (صلى الله عليه وسلم): إنك لاتهدي من أحببت [القصص: 56]. وإِذا لاحظنا السبب، نرى قول الله تعالى لرسوله (صلى الله عليه وسلم): وإنك لتهدي الى سراط مستقيم [الشورى: 52]. أي تكون سبباً في هداية من أراد الله هدايته.
والعلماء العارفون المرشدون هم ورثة الرسول (صلى الله عليه وسلم) في هداية الخلق ودلالتهم على الله تعالى. فإِذا استرشد مريد بشيخه، فقد اتخذ سبباً من أسباب الهداية التي أمر الله بها، وجعل لها أئمة يدلون عليها و جعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون [السجدة: 24].
وصلة المريد هي صلة روحية، لا تفصلها المسافات ولا الحواجز المادية، وإِذا كانت الجُدُر والمسافات لا تفصل أصوات الأثير فكيف تفصل بين الأرواح المطلقة ؟! لذا قالوا: (شيخك هو الذي ينفعك بُعدُه كما ينفعك قربُه) وبما أن الشيخ هو سبب هداية المريد ؛ فإِن المريد إِذا تعلق بشيخه، وطلب منه المدد، لا يكون قد أشرك بالله تعالى، لأنه يلاحظ هنا السبب، كما أوضحناه سابقاً، مع اعتقاده أن الهاديَ والمُمِدَّ هو الله تعالى، وأن الشيخ ليس إِلا سبباً، أقامه الله لهداية خلقه، وإِمدادهم بالنفحات القلبية، والتوجيهات الشرعية. ورسول الله (صلى الله عليه وسلم) هو البحر الزاخر الذي يستمد منه هؤلاء الشيوخ وعنه يصدرون.
فإِذا سلمنا بقيام الصلة الروحية بين المريد وشيخه، سلمنا بقيام المدد المترتب عليها، لأن الله يرزق البعض بالبعض في أمر الدين والدنيا .انتهى
افتراضي حكم قول مدد يارسول الله مدد
طلب المدد هو طلب الإعانة من المخلوق .
والاستعانة بالمخلوق جائزة كما دل عليه القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة.
ولهذا قال ذو القرنين كما في سورة الكهف "قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا"
ففي الآية أنه طلب الإعانة من المخلوقين .
وكما أن المسلم يعين المسلم بماله وجسده ونحوها من الإعانة الحسية فكذلك يعينه بالدعاء له وغيرها من أنواع الإعانة المعنوية .
وكما أن النفس المتعلقة بالدنيا تتسبب في ضرر الإنسان بمرض العين لقوة تعلقها بالدنيا فكذلك الروح الطيبة الطاهرة تتسبب في النفع لغيرها .
وكلها أسباب فقط وخالق العطاء هو الله وحده لا شريك، لكنه أمرنا بالاخذ بالأسباب .
وهذه الأسباب تثبت إما بالشرع أو بالتجربة التي لا تخالف الشرع .ولا شك أن الأستمداد من سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثابت بالأدلة الشرعية ونفعه لا شك فيه فمن تيقن ذلك انتفع به .
وقد قال الله تعالى "وتعاونوا على البر والتقوى" فسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم وأنفع من يعاون على كل بر وخير .
وعَنْ رَبِيعَةَ بْنِ كَعْبٍ الْأَسْلَمِيِّ -رضي الله عنه- قَالَ: كُنْتُ أَبِيتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَتَيْتُهُ بِوَضُوئِهِ وَحَاجَتِهِ فَقَالَ لِي: (سَلْ) فَقُلْتُ: أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِي الْجَنَّةِ، قَالَ: (أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ؟) قُلْتُ: هُوَ ذَاكَ، قَالَ: (فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ) رواه مسلم وغيره.
ففي الحديث أن سيدنا ربيعة سأل سيدنا خاتم المرسلين عليه الصلاة والسلام الجنة بل وأن يكون مرافقا له فأجاب طلبه وأمره أن يكثر من السجود لتتحقق هذه المرافقة.
وعندما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرقية قَالَ : "xمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَنْفَعَ أَخَاهُ فَلْيَفْعَلْ"رواه مسلم .
والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فمن استطاع أن ينفع أخاه بأي نفع جائز فلينفعه.
وعن ابن عمر قال : قال رسول الله صلي الله عليه وسلم (إن الله ليدفع بالمسلم الصالح عن مائة أهل بيت من جيرانه البلاء)) ..
ثم قرأ ابن عمر : ( وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ ) رواه الطبراني .
ومن الأدلة على الاستغاثة أيضا ما يلي:
ولله الحمد .
واﻵن نأتي لسرد بعض النصوص الشرعية واﻵثار التي ذكرها علماء الحديث في كتب الحديث عن اﻻستغاثة والتوسل وحثّوا على العمل بها مع التوثيق بإذن الله تعالى.
سيدنا رسول الله _ عليه الصلاة والسلام _ يأمر بالتوسل واﻻستغاثة به:
الحديث اﻷول :جاء في المعجم الصغير للمحدث الكبير اﻹمام الطبراني رحمه الله تعالى فيما أسند عثمان بن حنيف ما نصه برقم:
508 - حدثنا طاهر بن عيسى بن قيرس المصري التميمي حدثنا أصبغ بن الفرج حدثنا عبد الله بن وهب عن شبيب بن سعيد المكي عن روح بن القاسم عن أبي جعفر الخطمي المدني عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن عمه عثمان بن حنيف : أن رجلاً كان يختلف إلى عثمان بن عفان _رضي الله عنه_ في حاجة له فكان عثمان ﻻ يلتفت إليه ،وﻻ ينظر في حاجته .فلقي عثمان بن حنيف فشكا ذلك إليه ،فقال له عثمان بن حنيف: ائت الميضأة، فتوضأ ،ثم ائت المسجد فصلي فيه ركعتين،
ثم قل: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيناxمحمد صلى الله عليه و سلم نبي الرحمة، يا محمدx؛إني أتوجه بك إلى ربك ربي _جل وعز _ فيقضي لي حاجتي ، وتذكر حاجتك، ورح إلي حتى
xأروح معك.فانطلق الرجل فصنع ما قال له عثمانx،ثم أتى باب عثمان ،فجاء البواب حتى
xأخذ بيده، فأدخله عثمان بن عفان فأجلسه معه على الطنفسة ،وقال حاجتك ؟ فذكر حاجته ،فقضاها له ،ثم قال له: ما ذكرت حاجتك حتى كانت هذه الساعة وقال ما كانت لك من حاجة xفأتنا x،ثم إن الرجل خرج من عنده فلقي عثمان بن حنيف ،فقال له :جزاك الله خيراً، ما كان ينظر في حاجتي ،وﻻ يلتفت إلي حتى كلمته في .فقال عثمان بن حنيف:والله ما كلمته ،ولكن شهدت رسول الله _صلى الله عليه وسلم _ وأتاه ضرير فشكا عليه ذهاب بصره ،فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم (أفتصبر))؟فقال يا رسول الله إنه ليس لي قائد وقد شق علي.فقال له النبي _صلى الله عليه
و سلم _((إئت الميضأة فتوضأ ، ثم صل ركعتين، ثم ادع بهذه الدعوات، قال عثمان: فوالله ما تفرقنا وطال بنا الحديث حتى دخل علينا الرجل كأنه لم يكن به ضرر قط"
xلم يروه عن روح بن القاسم إﻻ شبيب بن سعيد أبو سعيد المكي وهو ثقةx،وهو الذي يحدث عن بن أحمد بن شبيب عن أبيه عن يونس بن يزيد اﻷبلي، وقد روى هذا الحديث شعبة عن أبي جعفر
الخطمي واسمه عمير بن يزيد وهو ثقةxتفرد به عثمان بن عمر بن فارس بن شعبة
والحديث صحيح .وروى هذا الحديث عون بن عمارة عن روح بن القاسم عن محمد بن المنكدر
xعن جابر رضي الله عنه وهم فيه عون بن عمارة والصواب حديث شبيب بن سعيد .
Xانتهى كلام الحافظ الطبراني رحمه الله.
حث حفّاظ اﻷمة اﻹسلامية على العمل بهذا الحديث:
فقد حث الحافظ الطبراني على العمل بهذا الحديث حيث أورده في كتابه الدعاء في باب: القول
عند الدخول على السلطان .
وحث على العمل به الحافظ ابن السني في كتابه عمل اليوم والليلة في باب ما يقول لمن ذهب
بصره.وحث عليه اﻹمام ابن خزيمة في صحيحه فقال باب صلاة الترغيب والترهيب ،ثم ذكره
في أحاديث الباب.كما ذكره اﻹمام الترمذي في جامعه ،وقال حديث حسن صحيح غريب.
وذكره اﻹمام أحمد في المسند وغيرهم. وانظرالمستدرك مع تعليقات الذهبي 1/707
فاﻹمام الحاكم والحافظ الذهبي يصححان الحديث بل هو في غاية الصحة حيث أنه على
شرط اﻹمام البخاري.وصححه اﻹمام البيهقي في دﻻئل النبوة وغيره من الحفاظ.
الفوائد:1_ استحباب العمل بهذا الدعاء .
2_ تصحيح الحفاظ لهذا الحديث من سلف اﻷمة ومن تبعهم رحمهم الله تعالى .
3_ عمل الصحابة بهذا الحديث ،وترغيب الناس في العمل بهذا الحديث كما صنع الحفاظ حيث حثوا عليه في كتب اﻷذكار والدعاء كما فعل اﻹمام ابن خزيمة والطبراني وابن السني والبيهقي والحاكم والمنذري وغيرهم من الحفاظ .
4_ فيه النص على عملين مشروعين وهما، اﻻستغاثة بالنبي _صلى الله عليه وسلم _بدون قصد
xالعبادة ،بل من باب تعاطي اﻷسباب المشروعة ،وكذلك التوسل به _صلى الله عليه وسلم _ إلى الله تعالى .
الحديث الثاني :xوهذا حصل في زمن خلافة سيدنا عمر رضي الله عنه في عصر
الخلفاء الراشدين:
قال اﻹمام الحافـظ أبو بكر بن أبى شيبة فى (المصنّف) (6/356) حديث برقم
(32002) (حدثنا أبو معاوية عن اﻷعمش عن أبى صالح عن مالك الدّار قال: وكان خازن عمر
xعلى الطعام قال:أصاب الناس قحط فى زمن عمر ،فجاء رجل إلى قبرالنبىx_صلى الله عليه وسلم _ فقال: يا رسول اللهxاستسق ﻷمتك فإنهم قد هلكوا .
فأُتِىَ الرجل فى المنام فقيل له: إئت عمر فأقرئه السلام وأخبره إنكم مسقون وقل له: عليك
xالكَيْس فأتى عمر فأخبره فبكى عمر ثم قال يارب ﻻ آلو إﻻّ ما عجزت عنه "
ورواه اﻹمام البيهقى فى كتابه (دﻻئل النبوة) (7/47)
ففي الخبر فوائد منها :
1_ اﻻستغاثة بسيدنا النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته عند نزول البلاء.
2_ عملهم بالرؤيا الصالحة ﻷنها ﻻ تخالف الشرع.
اما من جهة صحة الخبر فقد صححه الحفّاظ وعملت اﻷمة به على مر الدهور .
قال الحافظ ابن حج
ر فى "الفتح - 2/397" ما نصه(وروى ابن أبى شيبة بإسناد صحيحxمن رواية أبى صالح السمّان عن مالك الدار - وكان خازن عمر - قال: أصاب الناس قحط فى زمن عمر فجاءَ رجل إلى قبر النبى [ فقال: يا رسول الله! استسق ﻷمتك فإنهم قد هلكوا فأتى الرجل فى المنام فقيل له: أئت عمر... الحديث. وقد روى سيف فى «الفتوح» أن الذى رأى المنام المذكور هو بلال بن الحارث المزنى أحد الصحابة).انتهى كلام الحافظ ابن حجر بحروفه.
وصححه ابن كثير في البداية والنهاية في أحداث السنة الثامنة عشر للهجرة .
الدليل الثالث :وهذا الدليل ذكره عدد كبير من أئمة الحديث ،وحثوا عليه ،فمنهم :اﻹمام البخاري في كتابه اﻷدب المفرد .
ومنهم اﻹمام الثقة إبراهيم الحربي تلميذ اﻹمام أحمد في كتابه غريب الحديث .
ومنهم الحافظ ابن السني تلميذ الحافظ النسائي في كتابه عمل اليوم والليلة .
ومنهم الحافظ ابن الجعد في كتابه المسند .والنووي في اﻷذكار ،وابن تيمية في الكلم الطيب ،واﻹمام ابن الجزري في عدة الحصن الحصين، وغيرهم كثير .
وإليكم النقول:جاء في كتاب غريب الحديث للامام إبراهيم الحربي تلميذ اﻹمام أحمد بن حنبل في مادة خدر ما نصه:
756 - حدثنا عفان ، حدثنا شعبة ، عن أبي إسحاق ، عمن سمع ابن عمر ، قال : « خدرت رجله » ، فقيل : اذكر أحب الناس ، قال :« يا محمد »
وقال :757 - حدثنا أحمد بن يونس ، حدثنا زهير ، عن أبي إسحاق ، عن عبد الرحمن بن سعد : جئت ابن عمر فخدرت رجله ، فقلت : ما لرجلك ؟ قال : « اجتمع عصبها » ، قلت : ادع أحب الناس إليك ، قال :« يا محمد »
ففي هذين اﻷثرين تبرز اﻻستغاثة بسيدنا النبي _صلى الله عليه وسلم _ودعاءه عند حدوث هذا العارض ،وحتماً أن المسلمين قديماً وحديثاً ﻻ يفعلون ذلك بقصد عبادة سيدنا النبي _صلى الله عليه وسلم _ وإنما بقصد اﻻستغاثة السببية فقط،وإﻻ للزم المتنطعون اتهام الصحابة والتابعين بالوقوع في الشرك.
وجاء في اﻷدب المفرد للإمام البخاريx:باب ما يقول الرجل إذا خدرت رجله:1001 - حدثنا أبو نعيم قال : حدثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن عبد الرحمن بن سعد قال : خدرت رجل ابن عمر ، فقال له رجل : اذكر أحب الناس إليك ، فقال :" يا محمد"
فتأمل في قول الحافظ البخاري _رحمه الله تعالى _:باب ما يقول الرجل ، فهو حث على فعل هذه اﻻستغاثة.
معنى المدد في اللغة" مدد : عون وغوث " .
وفي الاصطلاح ورد في لسان العرب عن معنى كلمة مدد : مددنا القوم، أي صرنا لهم أنصارا ومددا.
وأمدَّ الأمير جنده بالخيل والرجال وأعانهم وأمدهم بمال كثير وأغناهم ...x
والمدد: العساكر التي تلحق بالمغازي في سبيل الله ، والإمداد أن يرسل الرجل مددا([1]).
وقال الإمام الفيومي رحمه الله تعالى: أمددته بمدد : أعنته وقويته به([2]).
ويختلف معنى كلمة (مدد) باختلاف نية قائلها فإذا قال المسلم : مدد يا الله أي أعنِّي وأمدَّني بقوتك وانصرني على عدوك وزدني بالرحمات والبركات وأمدني بالمقدرة على طاعتك ومحاربة نفسي وشيطاني .
وأما إذا قال : مدد يا أولياء الله فمعناه : أي علمونا مما علمكم الله وأمدونا مما أمدكم الله سبحانه به من العلوم والعرفان وساعدونا بما ينفعنا لسيرنا وأرشدونا في سلوكنا إلى محبة الله بإذن الله : وما كان هذا إلا لأن أكثر العباد فقدوا من يدربهم ويؤدبهم بالإسلام وبأخلاق سيد الأنام صلى الله عليه وآله وسلم فإنهم بحاجة إلى من يعينهم ويمدهم بالعلم ويعلمهم أدب طريقة السير والسلوك .
والمدد بالمعنى الذي ذكرناه موجود حسا ومعنى في حياتنا فلا يستطيع أحد أن ينكر أن الإنسان يستعين بوسائط النقل كالسيارة والطيارة والباخرة والقطار لقضاء الحوائج الدنيوية والانتقال بواسطتها من بلد إلى آخر لا يصل اليه الإنسان بدونها إلا بشق الأنفس هذا وإن البحارة والطيارين يستولون على وجهة سفرهم بحرا وجوا بواسطة قطعة معدنية يقال لها: البوصلة ترشدهم إلى الجهة المطلوبة ولا ينكر هذا فهل الاستعانة بالمعدن تخرج عن الملة؟!
هل ترفض مساعدة ثمينة يقدمها الينا من له خبرة في سلوك طريق محبة الله المحفوفة بشتى أنواع المخاطر للوصول من خلال ذلك المدد وتلك المساعدة بلا مشقة ولا تعب.. علما بأن أقل الأعداء في هذا الطريق النفس والشيطان والهوى..؟!
ومن هنا يظهر لنا أن الإنسان بحاجة إلى الاستعانة بأشياء كثيرة من مخلوقات الله لتمده بمدد قد سخره الله له على أيدي خلقه ومصنوعاتهم من أي نوع كانت. وهناك فرق بين مدد الخالق سبحانه ومدد المخلوق فكلمة مدد تأتي بمعنى المساعدة والمعاونة وهي مستحبة في كل أنواع البر بجميع الطرق التي أجازها الشرع الحنيف فاستعانة الناس بعضهم ببعض في الأمور لا مفر منها ولا غنى عنها والإنسان مأمور بها لا سيما في أمور البر والتقوى فقد قال الله تعالى ﴿وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان﴾([3]).
فالتعاون بين الخلائق هو المدد أي المساعدة ونصرة بعضهم لبعض فلو طلب الإنسان من بني جنسه الإمداد فليس بمعنى أنه يطلب منه كما يطلب من ربه ولكن بالمدد والقدرة التي أمده الله بها والإمداد بالمعنى المذكور على قسمين :
القسم الأول : هو مدد صرف من الله سبحانه وهو ما لا يتم على الحقيقة إلا منه ولا تكون الإغاثة للخلق إلا به سبحانه قال الله تعالى ﴿كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا﴾([4])، والمعنى كما قال الإمام الشوكاني رحمه الله تعالى : نزيده من عطائنا على تلاحق من غير انقطاع، نرزق المؤمنين والكفار وأهل الطاعة وأهل المعصية([5]).
والقسم الثاني : وهو ما يجريه الله سبحانه على يد ملائكته الكرام بما آتاهم الله من القوة والأسرار وعلى يد أنبيائه عليهم الصلاة والسلام بواسطة المعجزات وعلى يد أوليائه بطريق الكرامات.
والفرق جلي واضح جدا : وهو أن الله سبحانه يمد من يشاء من عباده من خزائن فضله ورحمته بالمعونة والإغاثة والنصرة على الكفار والمشركين متى شاء وكيفما شاء ولا يتوقف عطاؤه تعالى على إذن أحد أو رضاه .
وأما أنبياؤه وأولياؤه فلا يكون إمدادهم للطالبين إلا بإذن الله ومشيئته ورضاه وهو بالحقيقة مستمد من إمداد الله تعالى والأمثلة على ذلك كثيرة جدا.
وقد جعل الله تعالى في هذه الدنيا ملائكة لهم وظائف وأعمال ظاهرية وباطنية ويخدمون بها خلق الله تعالى بما أمرهم به الله.قال الإمام الرازي رحمه الله في تفسيره للآية الكريمة : ﴿من الله ذي المعارج﴾([6]): وعندي فيه وجه رابع : وهو أن هذه السماوات كما أنها متفاوتة في الارتفاع والانخفاض والكبروالصغر وقوتها وشدة القوة على تدبر هذا العالم (أي بحسب أمر الله تعالى لها) فلعل نور إنعام الله وأثر فيض رحمته لا يصل إلى هذا العالم إلا بواسطة تلك الأرواح إما على سبيل العادة أو لا ([7]) .
وقال أيضا رحمه الله تعالى في تفسير قول الله تعالى : ﴿وما منا إلا له مقام معلوم﴾: وهذا يدل على أن لكل واحد منهم مرتبة لا يتجاوزها ودرجة لا يتعدى عنها، وتلك الدرجات إشارة إلى درجاتهم في التصرف في أجسام هذا العالم ([8]) .
ولقد سخر الله ملائكة لمعرفة وكتابة أفعال العباد بأمر منه جل وعلا وهو في الوقت نفسه ينسب المعرفة والكتابة لنفسه قائلا سبحانه : ﴿إنا نحن نحي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم وكل شيء أحصيناه في إمام مبين﴾([9]) .
قال الإمام الطبري رضي الله عنه : أي ونكتب ما قدموا في الدنيا من خير وشر ومن صالح الأعمال وسيئها([10]).
وقال تعالى في حق الملائكة ﴿ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد﴾ ([11]) . وسخرهم أيضا لحفظ العباد وكذلك نسب الحفظ لذاته سبحانه وتعالى فقال: ﴿فالله خير حافظا وهو أرحم الراحمين﴾ ([12]) .
وقال سبحانه وتعالى أيضا في حق الملائكة : ﴿له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله﴾ ([13]) . وسخر ملك الموت لقبض الأرواح وفي نفس الوقت أيضا نسب ذلك لنفسه سبحانه فقال: ﴿والله خلقكم ثم يتوفاكم﴾ ([14]) . فالفعل في هذه الآية راجع لملك الموت بأمر الله وإذنه سبحانه.
وعلى هذا فإن الله تعالى قد أمد الملائكة بأسرار يحفظون بها عباد الله بتسخير منه عز وجل ، فهو فعال لما يريد فمهما ظهر من الملائكة الكرام من عجائب وغرائب لا يكون ذلك منهم على الحقيقة فهم مسخرون بأمر الله فقد قال عنهم ربنا تعالى: ﴿لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون﴾([16]).
وقد جعل الله تعالى في هذه الدنيا لخلقه ما جعل للملائكة الكرام عليهم السلام من وظائف وأعمال ظاهرية وباطنية وزودهم بإمدادات وقدرات نورانية فقد أكرم الله أنبياءه ورسله وأولياءه بشيء من الأسرار التي تجعلهم قائمين بها على نصرة دين الله ويمدون بها من شاؤوا بإذن ربهم ورضاه لإقامة دين الله جل جلاله وقال الإمام البيهقي رحمه الله تعالى في تفسير قول الله سبحانه : ﴿ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء﴾ ([17]) أي لا يعلمون من علمه إلا ما شاء أن يعلمهم إياه بتعليمه ([18]) .
وقال البغوي رحمه الله تعالى في تفسير قوله سبحانه في حق سيدنا الخضر رضي الله عنه : ﴿وعلمناه من لدنا علما﴾([19]) أي علم الباطن إلهاما ([20]) . والأنبياء عليهم الصلاة والسلام أرفع درجة وأجل قدرا عند الله من الملائكة عليهم السلام فلذلك أمدهم ببعض صفاته وأجرى على أيديهم بعض الخوارق التي لو سمع بها من ينكر المدد لأول وهلة ولم يعلم أنها صدرت عن رسول مؤيد لحكم على قائلها بالكفر والخروج عن الملة فورا!!
وأدل دلالة على هذا ما أجراه الله على يد سيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام فلنسمع إلى قول الله تعالى وهو ينسب إلى نفسه إحياء الموتى قائلا : ﴿فالله هو الولي وهو يحيى الموتى وهو على كل شيء قدير﴾ ([21]) ،
ثم يقول في حق سيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام قال عز وجل في حق الملائكة : ﴿قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم ثم إلى ربكم ترجعون﴾ ([15]) . ﴿وإذ تخرج الموتى بإذني﴾([22])، وكذلك ينسب شفاء المرض اليه سبحانه وتعالى فيقول: ﴿وإذا مرضت فهو يشفين﴾([23])، ثم يقول في حق سيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام: ﴿ وتبرى الأكمه والأبرص بإذني ﴾ ([24]) ، وينسب الخلق إلى نفسه سبحانه وتعالى فيقول: ﴿وخلق كل شيء فقدره تقديرا﴾([25])، ثم يقول في حق سيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام ﴿وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني﴾([26]) وليس ذلك فحسب بل بعد أن أمد الله سيدنا عيسى بتلك الصفات نراه يتكلم بلسان المدد الإلهي فينسب الأسباب إلى نفسه والفعل الحقيقي إلى مسببها فيقول : ﴿أني اخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله وأبرئ الأكمه والأبرص وأحي الموتى بإذن الله﴾([27]) .
وهذه الآية أكبر دليل على جواز إطلاق مثل هذه الألفاظ على من جعل الله المقدرات على يديه من باب المجاز الذي لا سبيل لإنكاره كما مر معنا في باب التوسل.ثم إن هذا في الحقيقة أعظم من كلمة مدد في مضمونها ودلالتها فالبركات والخيرات التي يمد الله تعالى بها أحدا من مخلوقاته يستفيد منها كل من حوله من المؤمنين فقد قال الله تعالى في حق سيدنا نوح عليه الصلاة والسلام : ﴿قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك﴾([28]).وأي وخيرات عظيمة عليك وعلى ذرية من معك من أهل السفينة([29]) .
وقال القرطبي : دخل في هذا كل مؤمن إلى يوم القيامة([30]).
ومنه قوله صلى الله عليه وآله وسلم : «مثل الجليس الصالح وجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير»([31]).
وما يمد الله سبحانه وتعالى به رسله وأنبياءه إنما هو في سبيل إقامة الحجة ونشر الدعوة وقد علمنا أن سيدنا محمدا صلى الله عليه وآله وسلم أفضل الأنبياء على الإطلاق كما قال صاحب الجوهرة رحمه الله تعالى:
وأفضل الخلق على الإطلاقx--- نبينا فمل عن الشقاق
وبهذا يكون المدد المعطى له صلى الله عليه وآله وسلم من الله سبحانه وتعالى أرقى وأعظم من جميع ما أعطيه سائر الأنبياء والمرسلين لأن الله بعث كل نبي مبلغا وداعيا لقومه ولكن بعثة الحبيب المصطفى كانت للخلق كافة. قال أحد الصالحين : إن الإمداد الذي يفيضه الله على أنبيائه كالأمانة المستعارة عندهم ليعلموا بواسطتها لهداية الخلق إلى طاعة ربهم ألم يقل الله تعالى في حق نبيه صلى الله عليه وآله وسلم ﴿وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم﴾([32]) ،
وقال أيضا سبحانه وتعالى في حقه صلى الله عليه وآله وسلم ﴿هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين﴾ ([33]) . فما دام سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم حاملا الرحمة والرأفة الإلهية للعالمين وأسرار التزكية للعالم باجمعه فهذا يعني أنه يمد الخلق بإذن الله بالرحمة والرأفة والآية الكريمة واضحة في كلمة ﴿ويزكيهم﴾ واستطاع بفضل الله وبواسطة عطاء الله له تزكية من اتبعه وأطاعه فأصلح من كانوا أشر الناس في الجاهلية وأفظهم قتلا وكفرا فأصبحوا بعدها ألطف الناس وأحسنهم أخلاقا ودينا وإيمانا.
وإن الله تعالى أعطى سيدنا محمدا صلى الله عليه وآله وسلم المقدرة والإمداد ليرشد الخلق . وهو يحمل في صدره المبارك مددا نورانيا يمد به عباد الله بإذن الله وقال القاضي البيضاوي في تفسير الآية الكريمة ﴿إني جاعل في الأرض خليفة﴾([34]) قال : (إن استخلافه سبحانه وتعالى ليس مبنيا على العجز والاحتياج ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا بل هو مبني على قصور المستخلف عليه .. فمعاملته تعالى في إفاضة الكمالات والمعارف على خلقه إنما هي بحسب استعداداتهم فمن كان مستعدا لاستفاضتها بلا واسطة يفيض عليه بنفسه بلا واسطة ملك ومن كان لا يقبلها إلا ممن كان من جنسه يفيض عليه بواسطة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فإن الأنبياء قوتهم النظرية فائقة على قوى سائر الأنام من حيث إنهم يتمكنون بقواهم على استنباط أنوار العلوم والمعارف لكونهم اعطوا مصباح البصيرة المودع في زجاجة القلب الكائنة في مشكاة الجسد الموقدة تلك الزجاجة من زيت الروح الصافية عن الكدرات بحيث يكاد زيتها لغاية صفائه يضيء ولو لم تمسسه نار .([35]) أهـ انتهى كلام البيضاوي .
فالمدد إذاً هو النور الرباني الذي يفيضه الله تعالى على قلوب أنبيائه وأوليائه من الرحمات والبركات والأسرار وفي الحقيقة إن كل دليل ذكرناه في معرض إثبات التوسل عامة وبالغائبين والأموات خاصة يصلح لأن يكون دليلا لإثبات المدد وسنذكر هنا بعضها ونزيد عليها إن شاء الله تعالى فمن ذلك ما رواه سيدنا عبدالله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى قال : «إذا انفلتت دابة أحدكم في أرض فلاة فليناد : يا عباد الله احبسوا علي دابتي فإن لله في الأرض حاضرا سيحبسه عليكم» ([36]) .
وقال الإمام النووي رضي الله تعالى عنه أنه جربه هو وبعض أكابر شيوخه ووجد أثره .
وجاء في الحديث الشريف أيضا عن سيدنا عتبة بن غزوان رضي الله عنه أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « إذا أضل أحدكم شيئا أو أراد غوثا وهو بأرض ليس بها أنيس فليقل يا عباد الله أغيثوني يا عباد الله أغيثوني فإن لله تعالى عبادا لا نراهم » ([37]) .
وقال الحافظ : وفي حديث عتبة شاهد من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : إن لله ملائكة في الأرض سوى الحفظة يكتبون ما يسقط من ورق الشجر فإذا أصاب أحدكم عرجة بأرض فلاة فليناد : يا عباد الله أعينوني ([38]) .
والإغاثة هنا ليست كإغاثة الله لخلقه إنما هي تعليم وتعريف وإرشاد ومساعدة بإذن الله .
وفي هذه الأحاديث دلالة على أن الله سبحانه وتعالى قد خص عبادا بأسرار وإمدادات ليخدموا بها المؤمنين مهما كان بين الداعي والمجيب من مسافات شاسعة وذلك كله بأمر الله تعالى وهذا دليل صريح بجواز طلب المدد من عباد الله . وهذا لا يتعارض مع حديث «إذا سألت فأسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله » ([39]) كما مر معنا في التوسل والاستغاثة.
( نظرة) : وما يقال في معنى المدد وطلبه من الله عن طريق الأحياء والمنتقلين يقال كذلك في معنى (النظرة) فإن من يقول لفظ (نظرة) وهو يتوسل أو يستغيث إنما يقصد أن يقول: انظر الي (يا رسول الله أو يا ولي الله) نظرة رحمة وإغاثة واشفع لي عند ربك يقضي حاجتي .هذا هو نفس معنى (أغيثوني – أعينوني – يا محمد – يا محمداه) وغيرها من الألفاظ التي مرت معنا بصدد الكلام عن الأدلة .
وطالبو المدد من الأنبياء والصالحين لا يدفعهم إلى ذلك إلا اعترافهم بتقصيرهم في أداء ما افترض الله عليهم على الوجه الكامل وعدم وصولهم لمقامات الإحسان فطلبوا الإمداد والمساعدة من الله بواسطة المصطفين الأخيار والأولياء الأبرار لما لهم من قوة ومقدرة كبيرة بفضل الله على الطاعة والصدق والصفاء والعبادة والإخلاص والمعرفة بآداب العبودية وما هذا إلا اقتداء بما أمر الله به صحابة سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم في قوله تعالى : ﴿ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما﴾([40] ) فالآية المباركة ترشدنا إلى أدب السؤال والطلب فأمر أولا بالمجيء إلى رسول الله ثم استغفار المذنب بنفسه بحضرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم اعترافه بعدم أهليته للطلب من الله لسواد صحيفته مع الله فيطلب من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أن يستغفر له وما ذلك إلا لأن استغفار الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لهم افضل واقرب قبولا منهم لما عنده من إخلاص وصفاء قلب وقوة في الطاعة أعظم مما عند السائل المستغفر ، فالسائل يسأل ربه أولا ومن ثم يطلب المدد ممن هو أرفع منه اعترافا بتقصيره وبأنه ليس أهلا لإجابة دعائه وبهذا يكون ملتزما بالكتاب والسنة حالا ومقالا .
السائل : مدد يا رسول الله أي استغفر لي وعلمني مما علمك الله بإذن الله وكذلك إذا قال : مدد يا أولياء الله أي يطلب منهم التوسط له عند سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم بطلب الشفاعة والمغفرة والإحسان ، فكل إنسان مبتدئ في أمور الدين والتزكية يحتاج إلى علم من سبقه في هذا المجال .
والذي يذهب إلى الطبيب ويستغيث به بقوله : يا طبيب خلصني من آلامي هل يكون مخطئا لأنه يستغيث بإنسان ليمده بالشفاء بواسطة العقاقير بالطبع لا لأن الله جعل الوسائط والأسباب بين خلقه وسعي العباد لكسب الأرزاق وكذلك معالجة المرأة العاقر بالعقاقير والأدوية مع العلم يقينا أن الله سبحانه هو رازق العباد بالأموال والبنين لا ينافي قول الله ﴿ ويمددكم بأموال وبنين ﴾ ([41]) ، ومما لا شك فيه أن الله سبحانه وتعالى بحكمته قد سخر الخلائق بعضها لبعض، وليفيد بعضها بعضا بإذنه تعالى، فكل نوع يفيد نوعه، فالشمس تعكس نورها على القمر في الليل، والقمر يعكس ضوءه على الأرض ويقال لهذه الظاهرة : (مدد انعكاس).فمن هنا نرى بأن الإنسان يستفيد من هذه الأنوار المخلوقة بوسائط ووسائل ، فالله عز وجل قادر أن ينير الأرض بدون شمس ولا قمر وهو ليس بحاجة لهما ولا لغيرهما من مخلوقاته . قال تعالى ﴿هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا﴾ فالشمس والقمر ليسا أعظم من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي وهبه قوة أعظم من الشمس والقمر تضيء بنور سراج قلبه عالم القلوب بإذن ربه لقوله تعالى ﴿يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا﴾ ([42]) .
فإن طلب المريد المدد من شيخه ما هو إلا انعكاس قلب الولي الكامل الذي هو أفضل عند الله من الشمس والقمر على قلب المريد ولا شك أن الشيخ هو أحد وراث النبي صلى الله عليه وآله وسلم حيث قال « إن العلماء ورثة الأنبياء » وقال في الحديث نفسه «وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب » ([43]) . قال «كفضل القمر» لأنه صلى الله عليه وآله وسلم هو الشمس المضيئة كما أن الشمس تعكس نورها على القمر والقمر يعكس نوره على الأرض كذلك فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعكس نوره على قلوب الأولياء وهم يعكسون ذلك النور على المريدين . وإذا ثبت الاستمداد بين الجمادات فيما بينها، فكيف ينتفي بين المخلوقات البشرية والله خلق الإنسان في أحسن تقويم وكرم بني آدم أكرم تكريم ؟! .
قال المحدث الورع الفقيه الإمام ابن أبي جمرة الأندلسي رضي الله عنه في شرحه لحديث الإفك : ... ولهذا المعنى جعل صلى الله عليه وآله وسلم لقيا المؤمن لأخيه المؤمن ببشاشة الوجه صدقة لأن المؤمن يستمد من أخيه بحسب ما يظهر على ظاهره ، كما أن أهل البواطن يستمد بعضهم من بعض بحسب ما يكون في بواطنهم.. ([44]) .
وقد أورد الإمام الفقيه محمد أمين أفندي المشهور بابن عابدين في رسالته : (الفوائد المخصصة) حيث يقول : ... وقد رأيت فيها رسالتين الأولى لعمدة المحققين فقيه النفس أبي الإخلاص الشيخ حسن الشرنبلي الوفائي الحنفي رحمه الله تعالى وشكر سعيه ، والثانية لحضرة الأستاذ من جمع بين علمي الظاهر والباطن مرشد الطالبين ومربي السالكين سيدي عبدالغني النابلسي الدمشقي الحنفي قدس الله تعالى سره وأعاد علينا من بركاته آمين ، فأردت أن أذكر حاصل ما في هاتين الرسالتين مستعينا بالله تعالى مستمدا من مدد هذين الإمامين الجليلين :
فهذا الإمام الجليل ابن عابدين الذي لا يخفى على أحد من طالبي العلم الشريف مكانته العلمية يستمد من أمداد الصالحين وهو رحمه الله تعالى يعلم يقينا أن الذي أمد هؤلاء الأكارم إنما هو الله سبحانه وهو يطلب مدد ربه بواسطة صلاح وتقوى هؤلاء الأكارم والأمثلة على ذلك كثيرة جدا ومن هنا يتبين لنا جواز الاستمداد من الأولياء (أي طلب المدد منهم) بشرط أن يعتقد المرء عند الطلب أن ما من شيء يجري في هذا الكون إلا بإذن الله تعالى ومشيئته وعلمه . وإن الولي إذا أمد الطالبين فإنما يمدهم مما أمده الله به ...
وإمداد الأنبياء والأولياء رضي الله عنهم من عجائب المعجزات وغرائب الكرامات ما هي إلا إشارات على نعم المنعم العظيم سبحانه التي أظهرها على يد من أنعم عليه من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين .
وإن إمداد الله لرسله وأوليائه يكون حسب ما يريد الله ويشاء ، وإمداد الرسل والأولياء لباقي العباد يكون أيضا حسب ما يريد الله ويشاء ، هذا ولم ترد آية أو حديث بتكفير من يستمد من الأنبياء والصالحين الاستمداد الشرعي الصحيح .
ومن ادعى يلزمه الدليل : ﴿قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين﴾ ([45]) .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
ولا يفيد الناس بشيء من دون الله إنما الضار والنافع في الحقيقة هو الله تعالى فجميع الفوائد التي ظهرت على أيدي الأنبياء عليهم ... .
يقول الشيخ عبد القادر عيسى رحمه الله في كتاب حقائق عن التصوف :xـ ومن الكلمات التي لها تأويل شرعي صحيح كلمة [مدد] التي يُردِّدها بعض الصوفية، فينادي بها أحدهم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أو يخاطب بها شيخه . وحجة المعترِض عليهم أن هذه الكلمة هي سؤال لغير الله واستعانة بسواه ولا يجوز السؤال إِلا له ولا الاستعانة إِلا به ؛ حيث قال الرسول (صلى الله عليه وسلم): «إِذا سألت فاسأل الله، وإِذا استعنت فاستعن بالله»(أخرجه مسلم) ، ثم إِن الله تعالى بيَّن في كتابه العزيز أنه هو مصدر الإِمداد حين قال : كلا ً نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك [الإِسراء: 20] .
وقد جهل هؤلاء المعترضون أن السادة الصوفية هم أهل التوحيد الخالص، الذين يأخذون بيد مريديهم ليذيقوهم حلاوة الإِيمان، وصفاء اليقين ؛ ويخلصوهم من شوائب الشرك في جميع صوره وأنواعه .
ولتوضيح المراد من كلمة [مدد] نقول : لابد للمؤمن في جميع أحواله أن تكون له نظرتان :
ـ نظرية توحيدية لله تعالى، بأنه وحده مسبب الأسباب، والفاعل المطلق في هذا الكون، المنفردُ بالإِيجاد والإِمداد، ولا يجوز للعبد أن يشرك معه أحداً من خلقه، مهما علا قدره أو سمت رتبته من نبي أو ولي.
ـ ونظرة للأسباب التي أثبتها الله تعالى بحكمته، حيث جعل لكل شيء سبباً.فالمؤمن يتخذ الأسباب ولكنه لا يعتمد عليها ولا يعتقد بتأثيرها الاستقلالي، فإِذا نظر العبد إِلى السبب واعتقد بتأثيره المستقل عن الله تعالى فقد أشرك، لأنه جعل الإِله الواحد آلهة متعددين .
وإِذا نظر للمسبِّب وأهمل اتخاذ الأسباب، فقد خالف سنة الله الذي جعل لكل شيء سبباً. والكمال هو النظر بالعينين معاً، فنشهد المسبِّبَ ولا نهمل السبب.
ولتوضيح هذه الفكرة نسوق بعض الأمثلة عليها: ـ إِن الله تعالى وحده هو خالق البشر ؛ ومع ذلك فقد جعل لخلقهم سبباً عادياً، وهو التقاء الزوجين، وتكوُّنُ الجنين في رحم الأم، وخروجه منه في أحسن تقويم.ـ وكذلك فإِن الله تعالى هو وحده المميت ؛ ولكنه جعل للإماتة سبباً هو ملك الموت، فإِذا لاحظنا المسبب قلنا: الله يتوفى الانفس[الزمر: 42].وإِذا قلنا: إِن فلاناً قد توفاه ملك الموت، لا نكون قد أشركنا مع الله إِلهاً آخر ؛ لأننا لاحظنا السبب، كما بينه الله تعالى في قوله: قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم [السجدة: 11].ـ وكذلك فإِن الله تعالى هو الرزاق، ولكنه جعل للرزق أسباباً عادية كالتجارة والزراعة.. فإِذا لاحظنا المسبب في معرض التوحيد، أدركنا قوله تعالى: إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين [الذاريات: 58].
وإِذا لاحظنا السبب وقلنا: إِن فلاناً يُرزَقُ من كسبهِ، لا نكون بذلك قد أشركنا، فرسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: «ما أكل أحد طعاماً قط خيراً من أن يأكل من عمل يده » (أخرجه البخاري). وقد جمع الرسول (صلى الله عليه وسلم) بين النظرتين توضيحاً للأمر وبياناً للكمال في قوله : «وإِنما أنا قاسم والله يعطي » ( أخرجه البخاري).
ـ وكذلك الأمر بالنسبة للإِنعام، ففي معرض التوحيد قوله تعالى: وما بكم من نعمة فمن الله[النحل: 53]. لأنه المنعم الحقيقي وحده. وفي معرض الجمع بين ملاحظة المسبِّب والسبب قوله تعالى: وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه .. [الأحزاب: 37]. فليس الرسول (صلى الله عليه وسلم) شريكاً لله في عطائه، وإِنما سيقت النعم لزيد بن حارثة رضي الله عنه بسببه (صلى الله عليه وسلم )، فقد أسلم على يديه، وأُعتِقَ بفضله، وتزوج باختياره..ـ
وكذلك بالنسبة للاستعانة، إِذا نظرنا للمسبب قلنا : «إِذا استعنْتَ فاستعن بالله». وإِذا نظرنا للسبب قلنا : وتعاونوا على البر والتقوى [المائدة: 2]. «والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه»(أخرجه مسلم ).
فإِذا قال المؤمن لأخيه: أَعِنِّي على حمل هذا المتاع ؛ لا يكون مشركاً مع الله تعالى أحداً أو مستعيناً بغير الله، لأن المؤمن ينظر بعينيه، فيرى المسبِّب والسبب، وكل من يتهمه بالشرك فهو ضال مضل.
ـ وهكذا الأمر بالنسبة للهداية ؛ إِذا نظرنا للمسبب، رأينا الله تعالى يقول لرسوله (صلى الله عليه وسلم) : إنك لاتهدي من أحببت [القصص: 56]. وإِذا لاحظنا السبب، نرى قول الله تعالى لرسوله (صلى الله عليه وسلم) : وإنك لتهدي الى سراط مستقيم [الشورى: 52]. أي تكون سبباً في هداية من أراد الله هدايته.
والعلماء العارفون المرشدون هم ورثة الرسول (صلى الله عليه وسلم) في هداية الخلق ودلالتهم على الله تعالى. فإِذا استرشد مريد بشيخه، فقد اتخذ سبباً من أسباب الهداية التي أمر الله بها، وجعل لها أئمة يدلون عليها و جعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون [السجدة: 24].
وصلة المريد هي صلة روحية، لا تفصلها المسافات ولا الحواجز المادية، وإِذا كانت الجُدُر والمسافات لا تفصل أصوات الأثير فكيف تفصل بين الأرواح المطلقة ؟!
لذا قالوا : (شيخك هو الذي ينفعك بُعدُه كما ينفعك قربُه) وبما أن الشيخ هو سبب هداية المريد ؛ فإِن المريد إِذا تعلق بشيخه، وطلب منه المدد، لا يكون قد أشرك بالله تعالى، لأنه يلاحظ هنا السبب، كما أوضحناه سابقاً، مع اعتقاده أن الهاديَ والمُمِدَّ هو الله تعالى، وأن الشيخ ليس إِلا سبباً، أقامه الله لهداية خلقه، وإِمدادهم بالنفحات القلبية، والتوجيهات الشرعية. ورسول الله (صلى الله عليه وسلم) هو البحر الزاخر الذي يستمد منه هؤلاء الشيوخ وعنه يصدرون.فإِذا سلمنا بقيام الصلة الروحية بين المريد وشيخه، سلمنا بقيام المدد المترتب عليها، لأن الله يرزق البعض بالبعض في أمر الدين والدنيا...
والله من وراء القصد وهو يهدى السبيل
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق