لامدنية إلا فى الإسلام

التمدين تمدين الإسلام :

قبل بيان تلك الحقيقة نبين معنى هذا اللفظ ، التمدين : مأخوذ من مدن ، أي : أقام ،  و المدينة ما تبنى على آطام الأرض للإقامة ، و إقامة الإنسان في موطن مخصوص لا تتسننى له إلا بتيسير ما لا بد له من طعام و لباس ، و مسكن و أمن و ملائمة لهواه ، و لا تتوفر تلك الضروريات للإنسان بنفسه أبدا إلا بمعاونة غيره له ، لأن كل واحد من الناس مفطور على الاحتياج في قومه ، و في أن يبلغ أفضل كمالاته ، و أشرف ما أهل له ، إن أشياء كثيرة يستحيل عليها أن يقوم بها كلها وحده ، فهو يحتاج إلى جماعة ، يقوم له كل واحد منهم بحاجة من ضرورياته ، و كل فرد من أفراد الجماعة يحتاج
إلى هذا العمل بعينه .


من ذلك يتبين لك أن الإنسان  لا ينال كماله الحقيقي إلا بجماعات كثيرة يتضامنون على التعاون ، يقوم كل واحد مع الآخر بحاجة ، و بذلك يجتمع لكل واحد جميع ما يحتاج إليه بعمل كل أفراد المجتمع ، و هذا السبب الحقيقي للمدن و الموجب للاجتماعات ، و لولا اضطرار كل فرد للجماعة لما حصل مجتمع ، و لو نظرت بفكرك إلى أنواع الحيوانات لرأيت أكثرها لا اجتماع لها ، لغنى كل فرد منها عن الجماعة .



و المجتمعات إما عظمى كاملة و إما غير كاملة ، و المجتمعات الكاملة إما عامة كبرى ، أو وسطى ، أو صغرى .  فالمجتمعات العامة الكبرى اجتماع بني الإنسان على سطح الأرض ، و الوسطى اجتماع أمة في جزء من الأرض ، كاجتماع العرب و المصريين في مصر ،  و الصغرى اجتماع أهل مدينة ،  كمدينة بغداد و المحروسة و دار السعادة حرسها الله . و قد سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم  الأرض التي جمع الله فيها القائمين له سبحانه بما يحبه      و يرضاه بالمدينة المنورة ، يعني المجتمع الإنساني الذي نوره الله تعالى بنور التخلق بأخلاقه و القيام له سبحانه و شكر النعمة ، و على ذلك فالمجتمع الإسلامي إذا مثل أصحاب رسول الله  صلى الله عليه وسلم  كانت الأرض التي يسكنها هي المدينة المنورة في الحقيقة ، و الإشارة إلى ذلك  بقوله  صلى الله عليه وسلم  ( المدينة خير لهم لو كانوا يعلمون ) يعني القيام لله بما يحبه و يرضاه خير لهم .



و المجتمع غير الكامل كاجتماع القرية و المحلة و المنزل ، و أصغرها الاجتماع المنزلي ، و هو عند الحكماء أكبر المجتمعات ، لأنه يكون أمة كاملة من رئيس و وزراء    و أعوان و صناع ، إذا تكون من والد حكيم ، و أبناء بررة ، و خدمة صالحين ، و ذلك لأنه أصل كل مجتمع ، و بنسبته تكون الأمة في الفضيلة و الرذيلة ، و المجتمعات الصغرى تكون كجزء للمدينة أو خدمة لها ، و المدينة جزء من الأمة ، و الأمة جزء من أهل المعمورة ،    و من البديهي أن الخير الأفضل و الكمال الحقيقي لا ينالان إلا بالمجتمع المدني ،  لتوفر أسبابه و تيسير معداته ، بخلاف المجتمعات الصغرى ،  فإنها  - و إن توفر فيها بعض الخير و الكمال -   إلا أنهما لا يكونان على الوجه الأكمل .  هذا ، و لما كان الخير في الحقيقة ينال بالإرادة و الاختيار  ، و كذلك الشرور إنما تنال بالإرادة و الاختيار ، جاز أن تكون المدينة للتعاون على بلوغ بعض الغايات و الأغراض التي هي نهاية الشرور .  و ليست كل مدينة تنال بها السعادة إلا بشروط خاصة ، لا بد أن تتوفر فيها ، حتى يمكن أن يكون كل فرد منها مجدا في التعاون على الأعمال التي تنال بها السعادة ، في الحقيقة و نفس الأمر ، و ينال بها الخير الأفضل ، و ذلك لا يكون إلا بباعث قلبي عن علم بالله تعالى ، و بأيامه ،          و أحكامه ، و تصديق بالجزاء و العقاب يورث خشية بها تنبعث همته إلى طلب الخير الحقيقي له و لغيره ، و العمل للنفع العام ،  أو بأحكام صارمة تنخلع بها قلوب أهل الطغيان          و المفاسد ، و تطمئن بها القلوب لأنها من الحكم العدل العليم الخبير القادر القهار ، يقوم  بتنفيذها أمين صادق ذكي النفس علي الهمة ، يخشى ربه و يرجو فضل مولاه ، أو من ترفعت نفسه عما يشينها و كره سوء السمعة ، و باطنه إلى الله تعالى هو أعلم به ، و لا سبيل إلى هذا كله إلا بالإسلام .



و كل مدينة يتعاون أهلها على نيل الخير الأفضل و الكمال الحقيقي  - عملا بوصايا الإسلام -  هي المدينة الفاضلة ، و الأمة الفاضلة ، و قد شبه رسول الله  صلى الله عليه وسلمالمجتمع الإسلامي بالجسد الواحد ، الذي إذا مرض إصبع منه سقم له جميع البدن ، و هي الحقيقة ، فان المدينة الإسلامية أو المجتمع الإسلامي التام هو المجتمع الفاضل ، و هو كما شبهه رسول الله  صلى الله عليه وسلم  بالبدن الصحيح التام ، الذي تتعاون أعضاؤه كلها على تتميم الحياة الحيوانية        و الروحانية ، و على حفظها عليه .



و كما أن البدن أعضاؤه مختلفة ، متفاضلة الفطر و القوى ، و فيها عضو واحد رئيس هو القلب ، و أعضاء تقرب مراتبها من ذلك الرئيس ، و كل واحد منها جعلت فيه بالطبع قوة يفعل بها فعله ، ابتغاء لما هو غرض ذلك العضو الرئيس ، و أعضاء أخرى فيها قوى تفعل أفعالها على حسب أغراض هذه التي ليس بينها و بين الرئيس واسطة ، فهذه في الرتبة الثانية ، و أعضاء أخر تفعل الأفعال على حسب غرض هؤلاء الذين في هذه المرتبة الثانية ، ثم هكذا إلى أن تنتهي إلى أعضاء تخدم و لا ترأس أصلا ، و كذلك المدينة أجزاؤها مختلفة الفطرة ، متفاضلة الهيئات ، و فيها إنسان هو رئيس ، و آخرون تقرب مراتبهم من الرئيس ،  و في كل رتبة منها هيئة و ملكة تفعل بها فعلا تقتدي به ما هو مقصود ذلك الرئيس ، و هؤلاء هم أولو المراتب الأول ، و دون هؤلاء قوم يفعلون الأفعال على حسب أغراض هؤلاء ، و هؤلاء هم في الرتبة الثانية ، و دون هؤلاء أيضا من يفعل أفعال على حسب أغراض هؤلاء ، ثم هكذا تترتب أجزاء المدينة إلى أن تنتهي إلى من يفعلون أفعالهم على حسب أغراض غيرهم ، فيكون هؤلاء هم الذين يخدمون و لا ’يخدمون ، و يكونون في أدنى المراتب و يكونون هم الأسفلين .



غير أن أعضاء البدن فطرية ، و الهيئات التي بها القوى فطرية ،  و أجزاء المدينة  - و إن كانوا مفطورين -  فان الهيئات و الملكات التي يفعلون بها أفعالهم للمجتمع منه ليست فطرية بل إرادية ، على أن أجزاء المجتمع مفطورون بالطبع بفطر متفاضلة ، يصلح بها إنسان لإنسان لشيء دون شيء ، غير أنهم ليسوا أجزاء المجتمع الإسلامي بالفطر التي لهم وحدها ، بل بالملكات الإرادية التي تحصل بها ، و هي الصناعات و ما شاكلها ، و القوى التي هي أعضاء البدن بالطبع ، فإن نظائرها في أجزاء المدينة ملكات و هيئات إرادية .



          و هذا تفصيل لإجمال الحديث الشريف على  قدر ما يفهم الإنسان الذي له قلب يفقه أسرار الكلام النبوي ،  فإن كل كلمة من كلام النبي  صلى الله عليه وسلم  كنز لغالي الحكم  و نفائس العوارف ، و لو أني أحببت أن أفصل هذا الحديث الشريف و أشرح معانيه الغامضة ، لاستغرقت عمري صارفا كل أنفاسي في بيانه و لم أف بغوامض أسراره ،  قال الله تعالى   ) وَمَاأُوتِيتُممِّنالْعِلْمِإِلاَّقَلِيلاً (  سورة الإسراء آية (85) . من هذا الحديث الشريف يعلم قدر المدينة الإسلامية ، و ما أنتجته للعمران من السعادة و الراحة و الحضارة و الرقي العقلي و العلمي ، و الصناعي و التجاري و الزراعي ، و نمو الفكر حتى بلغ أن يجول فيما وراء المادة ، بعد أن كشف أسرارها و استخدمها فيما ينفع .



لـم يكن هذا كله إلا بالوصايا الإسلامية ،  و التعاليم المحمدية لأن وصايا رسول   الله  صلى الله عليه وسلم  ضامنة للسعادتين ، متضمنة خيري الدنيا و الآخرة ، حاثة على العمل لله ،  حتى  أنه  صلى الله عليه وسلم  نبه قلوب المسلمين في كل حركاتهم و سكناتهم أن يعملوا للخير العام ابتغاء مرضاة الله تعالى ، و قد بشر من غرس الشجرة و لم ينتفع بها أن له صدقات بقدر ما ينتفع بظلها و بثمرها ، كل ذلك حث على العمل لله تعالى .