مدونة مراقى الصالحين: الـتـعـصـب للـديـن

الجمعة، 3 يونيو 2016

الـتـعـصـب للـديـن


تعريف التعـصب :
التعصب مأخوذ من العصبة ، و هي إطناب المفاصل التي هي قوة الأعضاء ، فالأخ المعين ، أو الأخ المساعد يسمى عصبة للأخ .
و لما كانت الفضيلة من كل شيء أوسطه ، و كان التعصب للدين المخرج عن كمالاته و محاسنه باللغو المفرط رذيلة ، و هو الطرف الأعلى ، و كان الإهمال في التعصب في الدين المؤدي إلى تعدي حدود الله سبحانه و ترك العمل بوصاياه جلت قدرته هو الطرف الأسفل ، و أرذل الرذائل ، و كان التعصب للدين بمعناه الحقيقي و هو العمل بوصاياه على علم ، و بذل النفس و المال لحفظه و إقامة حدوده ، و التجمل بآدابه و كمالاته ، و القيام بإظهار
جماله و أنواره ، و دفع ما يشينه مما ليس منه ، و كبح الساعي في تغيبر شيء منه ، و محاربة العامل على تغييره ، هو عين الفضيلة ، بل هو أفضل الفضائل ، و كان من الشرف أن يكون الإنسان متصفا بالتعصب للإسلام مفتخرا بذلك ، و هو الفخر حقا و لو أنكر عليه أهل الرذائل ، أو سعى في مداراته أهل المفاسد ، أو خاصمه أهل الجهالة و الغواية ،   و من يرى أن التعصب للإسلام بهذا المعنى من الجهل أو الجمود ، فهو خفاش لا يرى الشمس ضحوة في النهار الصحو . إذا تقرر ذلك فكل عاقل حكيم يفتخر بأن ينسب إليه التعصب في الدين ، و يرى ذلك من أكمل نعم الله تعالى ، و يجاهر بأنه متعصب للدين ، يقتدي به المؤهلون للتجمل بتلك الفضيلة الكاملة .

نتائج التعصب للدين :
ينتج من التعصب للدين خيرات لا تحصى و نعم لا تستقصى ، نقتصر منها في هذا المختصر على أربعة معان ، هن أمهات تلك الخيرات كلها :
أولها : سعادة الفرد في نفسه .
ثانيها : سعادة المجتمع .
ثالثها : العمل للخير العام .
رابعها : السعادة الأبدية في جوار رب العالمين  )  مَعَالَّذِينَأَنْعَمَاللّهُعَلَيْهِم  مِّنَالنَّبِيِّينَ  وَالصِّدِّيقِينَوَالشُّهَدَاءوَالصَّالِحِينَوَحَسُنَ   أُولَـئِكَرَفِيقًا(  سورة النساء آية (69) .

 و إليك تفصيل ما أجملناه من المعاني الأربعة .
ولا : سعادة الفرد في نفسه :

سإن الإنسان إذا تفضل الله عليه بأن جمله بفضيلة التعصب لدينه سبحانه ، ثم مالت نفسه إلى العلم بأصول الدين و فروعه ، و رغبة في فهم أسراره و حكمه ، و اشتاقت إلى مكاشفة أنواره ، و لانت جوارحه إلى العمل بأحكامه ، فكان متجملا بأجمل مكارم الأخلاق مسرعا إلى الخير ، متصفا بالرحمة و الشفقة ، و البر و الصلة ، و الصدق و الأمانة ،      و العطف على الفقراء ، و إيثار إخوته المؤمنين على نفسه فيما يلائم نفسه و هواه ، منافسا بما به كمالات نفسه ، و تجريدها من فطرها التي جبلت عليها ، و استبدال رذائلها البهيمية   و خبائثها الإبليسية ، بمعاني الصفات التي رغب فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، و دعا إليها كتاب الله تعالى ، مسارعا إلى فعل الأكمل منها ، و الأجمل من معانيها ، حتى يكون إنسانا وسطا روحانيا بكمالاته النفسانية ، ربانية بأخلاقه المحمدية ، ظاهره يمثل كمالات السنة ، حتى يكون بدلا من أبدال الرسالة ، و مشكاة من الصور المحمدية ، و قلبه بيت عامر باليقين الحـق ، و الإخـلاص لذات الله تعالى ، و الحب في ذات الله تعـالى ، والرغبة و الرهبـة و التوكل و التفويض .  فيكون فردا جامعا للكمالات الروحانية و الملكوتية ، و للمحاسن الإنسانية الإسلامية ، فيضع الله له الحب في عوالم ملكوته ،  حتى تحن إليه الملائكة          و يشتـاق إليه الفردوس الأعلى ، و يلقي عليه محبة منه سبحانه ، فلا يراه إنسان  - بل و لا حيوان أو جن -  إلا أحبه ، و يكون إماما للمتقين ، معظما حتى عند العصاة و الكافرين ،   و من كانت هذه حاله و تلك صفاته يعيش في تلك الدار الدنيا راضيا مرضيا ، هاديا مهديا ، لا تفي العبارة بما أعده الله له في برزخه و يوم معاده ، معنى قوله سبحانه  ) فَلَاتَعْلَمُنَفْسٌمَّاأُخْفِيَلَهُممِّنقُرَّةِأَعْيُنٍجَزَاء   بِمَاكَانُوايَعْمَلُونَ (  سورة السجدة آية (17) .

كل هذا الفضل العظيم نتيجة التعصب للدين المؤدي إلى القيام بحقوقه و العمل بوصاياه ، و قهر النفس على التمسك به ، و الغيرة على دفع الشبه عنه ، و مناوأة من يتساهل في إقامة حدوده ، أو من يسعى في إخفاء جمالاته ، و كم أعز الله بالتقوى ذليلا  ، و رفع بالغيرة على الدين وضيعا ، و أكرم بإحياء سنته مهينا ، و مكـﳲن لمن بيـﳲن آياته في الأرض بالحق ، و عـز بالإيمان ذليلا ، هذا أمر بديهي لا يشك فيه إنسان .   و إنا لنرى أهل الشرور و الفسوق و الجحود يجلون التقي و تشعر قلوبهم بالهيبة له ،   و تشرح صدورهم إذا قابلوه ، أو دعا لهم ، و هو إنسان مثـلهم و يمكنهم أن يكونوا مثله ،   و لكن الله أعز بعزه من عمل بوصاياه ، و جمله بجماله .  هذا ما يناله الفرد في نفسه إذا تعصب لدينه ، التعصب الذي هو الفضيلة و الواجب شرعا .

و لعل جاهلا بلذة الحياة الحقيقية في الدنيا التي لا تطيب إلا بالتعاون ، و النعام الأبدي في الآخرة ، الذي لا ينال إلا بالتعصب الحقيقي للدين تعصبا يؤدي إلى محاربة النفس ،      و قهرها على عمل الأفضل و الأكمل من أحكام السنة و الكتاب ، لعل هذا الجاهل قد يسترذل التعصب للدين ، و يظنه من القبائح أو من قلة الأدب و الذوق ، جهلا منه بنتائج التهاون بالدين للمجتمع في الدنيا و الآخرة ، و يحسن له حظه المضر و هواه المضل ، أن الأفضل ترك التعصب للدين ، و التقاعد عن تلك النسبة حتى يكون الإنسان مدينيا مألوفا .   فأقول لهذا الغوي : إن جهالته بأسرار دينه و غفلته عن علم كمالاته و انقياده لنفسه و حظه و رؤيته ما عليه من يدعون الإسلام من التهاون بالدين أو من العمال التي يدعون أنها من الدين و ليست من الدين جعلت ذلك الغافل عن معارج رقيه و طرق سعادته هاويا في مهاوي الهلاك يقبح التعصب للدين ، و لو انه تفكر في أسرار دينه و فقه حكمة أحكامه ، و علم حقيقة الخير و السعادة ، لكان أول من يصبح مشهورا بين المجتمع الإسلامي بأنه متعصب لدينه .


كيف تتعصب للدين ؟  :

ليس التعصب للدين بالإنكار على الفرد المتهاون بحالة تنفر ، و لا بالتشنيع على المتساهلين بأساليب تبغضهم ، إنما التعصب للدين حقيقة أن تتعصب لدينك أولاﹰعلى نفسك لتجملها فتقوم عاملا بحقيقة أحكامه ، حتى يسهل عليك أن تعمل ما كان يصعب عليك ،     ثم تجاهد إخوانك  كمجاهدتك لنفسك .  فإذا أنست من نفسك و من إخوانك العمل بكتاب الله   و سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، و جب عليكم أن تنبهوا قلوب إخوانكم إلى كمالات الدين بعملكم ابتغاء مرضاة الله ، و بقولكم الحكمة ، مع المحافظة على أكمل الأوصاف المرضية شرعا ، من الغيرة على الدين و الأخلاق ، و مع الزهد فيما لا حاجة لكم إليه ، و طلب ما لا بد لكم منه من وجوهه الشرعية ، و بذل ما لا يضركم بذله لأهل الحاجة ، حتى تكونوا أئمة بعملكم     و قولكم سر قوله تعالى  )   وَلْتَكُنمِّنكُمْأُمَّةٌيَدْعُونَإِلَىالْخَيْرِوَيَأْمُرُونَبِالْمَعْرُوفِ  وَيَنْهَوْنَعَنِالْمُنكَرِوَأُوْلَـئِكَهُمُالْمُفْلِحُونَ (سورة آل عمراة آية (104) ، و معنى ذلك أن الذين يأمرون بالمعروف لا بد أن يكونوا على أكمل الأوصاف المرضية شرعا ، من الغيرة على الدين و العمل بالقلب و الجوارح و اللسان على طبق العلم .

          فإذا تكون في المجتمع الإسلامي من تفضل الله عليهم بمواهب التعصب للدين ، أشرقت أنوارهم على جميع المجتمع فتكونت فيهم عصبية للدين ، لا يخافون الموت و لا يخشون الفوت ، يرون الحق أولى بهم من أنفسهم ، و أعز عليهم من أرواحهم ، و أنه الخير الحقيقي المقصود لذاته ، و كل خير تدعو إليه النفس لم يكن بالحق و للحق يرونه شرا       و هلاكا ، عند ذلك ينزل الله السكينة عليهم و يثيبهم فتحا قريبا . قال تعالى  )  وَعَدَاللَّهُالَّذِينَآمَنُوامِنكُمْوَ عَمِلُوا  الصَّالِحَاتِلَيَسْتَخْلِفَنَّهُمفِيالْأَرْضِكَمَااسْتَخْلَفَ  الَّذِينَمِنقَبْلِهِمْوَ  لَيُمَكِّنَنَّلَهُمْدِينَهُمُالَّذِيارْتَضَىلَهُمْ   وَلَيُبَدِّلَنَّهُممِّنبَعْدِخَوْفِهِمْأَمْنًايَعْبُدُونَنِيلَايُشْرِكُونَبِي  شَيْئًا(  سورة النور آية (55) ،   بيـﳲن الله تعالى بهذه الآية الشريفة أن الذين آمنوا و عملوا الصالحات كالجسد الواحد ، كل واحد منهم ككل عضو من الجسد ، لأنه أخبر سبحانه بما أعده للجميع من الاستخلاف في الأرض ، و تمكين الدين لهم ، فجعل هذا الفضل كالخير الذي يمنحه الوالد لأولاده الذين هم في رتبة واحدة من النسب ، بل هذا النسب الإلهي هو النسب حقا ، الذي به نيل الخير في الدنيا مجدا و علوا في الأرض بالحق ،       و الفوز بفردوس الله الأعلى يوم القيامة ، و كفى بنسب الإسلام شرفا أن ننال به ما لا عين رأت و لا أذن سمعت و لا خطر على قلب بشر ، و لا بد لأعضاء الجسم من أعصاب تربطها ، كما أنه لا بد للنسب الإسلامي من عصبة تقوى بها الجامعة ،  قوة يحفظ الله بها دينه ، و يقي بها حدوده ، فالتعصب للإسلام كالأعصاب للجسد ، فلا تماسك للجسد إلا بالأعصاب ، كما لا حفظ للإسلام إلا بالتعصب له من مجتمعه الذي يمثل حقيقة الأخوة ،  قال الله تعالى  ) إِنَّمَاالْمُؤْمِنُونَإِخْوَةٌفَأَصْلِحُوابَيْنَأَخَوَيْكُمْوَاتَّقُوااللَّهَ  لَعَلَّكُمْتُرْحَمُونَ (  سورة الحجرات آية (10) ، فبين الله لنا في تلك الآية الشريفة حقيقة النسب الإسلامي ، بأن جعل كل مسلم أخا لكل مسلم ، حتى جعل الجميع فروعا لأصل واحد ، متصلة تلك الفروع ببعضها و الكل متصل بالأصل الواحد ، فجعل الأصل الذي هو والد الجميع رسول الله صلى الله عليه وسلم، و جعل كل مسلم من لدنه صلى الله عليه وسلمإلى يوم القيامة ابنا له صلى الله عليه وسلم  ، كما سنوضح ذلك في الآية الآتية ، ثم إنه أوجب على كل ولد بار حقا مقدسا لوالده ، و حقا مقدسا لكل أخ من إخوته ، و كلنا نعلم أن الإخاء يجعل كل فرد من المسلمين هو عين الآخر ، إلا أنه شخص آخر ، و معنى ذلك أن كل فرد من المسلمين يفرح بما به يفرح أخوه و يتألم بما يؤلمه ، و من لم يحس بهذا الوجدان فليس بمسلم حقا ، و إن ادعى ذلك ، فليس الإيمان دعوى ، و إلا فمتى يتألم عضو من الجسد و لا يتداعى له الجسد بالسهر و الحمى ؟   فكل من ادعى الإسلام  و حرم هذا النسب الإلهي فدعواه باطلة ، انظر إلى لطيف قوله تعالى )  فَأَصْلِحُوابَيْنَأَخَوَيْكُمْ  ( فإن معنى هذا الإصلاح أن يقوم لإخوته المؤمنين بما به صفاء حالهم و صلاح ذات بينهم        و إصلاح شأنه ببذل المال و النفس ، ثم أعقب ذلك بقوله )وَاتَّقُوااللَّهَ  لَعَلَّكُمْتُرْحَمُونَ   (، أي خافوا الله مراقبة لحقوقه التي أوجبها عليكم ، من الرحمة بكل مسلم و الشفقة عليه ، لعلكم تفوزون برحمة الله تعالى ، بقدر ما قمتم به من الرحمة لإخوانكم المسلمين ،  و قوله تعالى  )لَعَلَّكُمْتُرْحَمُونَ ( بمعنى لترحموا ، لأن الترجي لا يليق بالله تعالى ، و ذلك لأن المترجى شاك ، أي متوقع حصول الأمر .




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق